الجمعة، 23 سبتمبر 2016

عقلنة الشفقة


طيلة النصف الأخير من سبتمبر من هذا العام 2016 ، ظل الرأي العام السوداني منشغلا بقضية تسجيل وفيات بالإسهال في ولاية النيل الأزرق ، ثم كسلا ، مع أنباء عن وفيات في الخرطوم ، مع غياب أي أرقام أو بيانات حكومية . بعض مؤيدي النظام الحاكم سارعوا إلى نفي وجود حالة وبائية وإتهام المعارضة بالتهويل وحتى بافتعال الأزمة لإحراج النظام . وبرزت للمرة الثانية قضية علاقة العمل الانساني بالسياسي .
قبل هذا الحدث بأيام قليلة قرأت عدة تعليقات تقلل من أهمية أداء  شعيرة الحج الإسلامية بحجة حوجة الفقراء المسلمين للأموال ، ثم تكرر نفس الأحتجاج  أيام عيد الأضحى  . هذا التوالي السريع للأحداث جعلني أفكر  في إمكانية وجود تضامن إنساني خام ، غير متأثر بالسياسة أو الايدولوجيا .ثم عن جدوى ذلك إن وجد ، في الأخير ليس من المنطق محاكمة الدوافع والنوايا بافتراضات مؤسسة هي نفسها على ايدولوجيا مضادة . فإن عدنا لقصة الوباء السوداني نجد أن السياسي هو أول ما تبادر لاذهان المنافحين عن النظام ، ثم اتهموا الآخرين بالانطلاق من أجندات سياسية وهذه من غرائبيات السياسة السودانية في هذا العهد .
قبيل الإستقلال السوداني وقع أول انتهاك كبير ضد مواطنين سودانيين بواسطة أول حكومة سودانية ، هو مذبحة عنبر جودة الشهيرة . وقد سجل مواطنو مدينة كوستي مأثرة إنسانية غراء بتضامنهم ومساندتهم للضحايا ، مع مواقف مشرفة لمواطنين ومثقفين من مختلف أنحاء السودان ، في المقابل كانت هناك أصوات غير خافتة تتحدث عن الأصول الأجنبية لبعض الضحايا وكأنما هذا - بإفتراض صحته - يلغي المأساة أو يلطف بشاعتها . كان لليسار الاشتراكي القدح المعلى في تأجيج الإحتجاج وتنظيمه ، وقد تم تخليد المذبحة في عملين أدبيين شهيرين الأول قصيدة للشاعر صلاح أحمد إبراهيم يستهلها ب " لو كانوا حزمة جرجير يعد كي يباع لخدم الافرنج في المدينة الكبيرة " والثاني هو " تصريح لمزارع من جودة " لعبد الله على إبراهيم ، دون أن أخالف ما قلته عن لا أهمية الدافع والنية ، فإنني كثيرا ما أفكر في صلاح أحمد إبراهيم عندما سجل هذا الموقف النبيل ، هل كان ما يهمه فقط معاناة أولئك المناكيد ؟ أم أن ايدولوجياه الشهيرة والكفاح ضد النظام "الرجعي" هي همه . ومن معرفتي به ، ما أن أرجح خيارا حتى يدلي الآخر بحجته ، ثم جمعت المتناقضين في توليفة أن الأمرين يصعب الفصل بينهما ويتداخلان لدرجة التماهي أحيانا . أما الآخر صاحب " تصريح لمزارع من جودة " فاعجب عندما أرى المسافة الشاسعة بين زمجرته إبان محذرة جودة ثم صمته أو تلجلجه مع المجاذر اليومية الراهنة في حزام الحرب الأهلية ، فاقطع الشك باليقين أن  الايدولوجيا هي ما الان قلبه مع حادثة جودة ، وهي ما تجعله كالحجارة وأشد قسوة الآن .
الأمطار الغزيرة والسيول التي شهدها السودان في العام 2013 احدثت أضراراً بالغة في مناطق شتى ، وافقدت الكثيرين حياتهم ، منازلهم ، ممتلكاتهم ، كان الوضع في كثير من المناطق كارثياً بالفعل ، فتنادي عدد من الشباب لتكوين مبادرة نفير التي ساهمت بشكل مقدر في أعمال الإغاثة والحصر ، في تلك الأيام كنت من أبطال معسكر المعارضين لهذا العمل الطوعي بحجج أضحك على نفسي عندما أتذكرها الآن ، مثل أن هذا واجب الحكومة ، ويعطل تراكم الوعي بالظلم اللازم لإندلاع الثورة ، ويطيل عمر النظام ..الخ، كنت متأثرا بنزعة يساروية ترى في فكرة المجتمع المدني والمنظمات الطوعية الشر الخالص .هذا الوضع أشبه بما يسمى بالاغتراب ، أو الاستلاب السياسي أو الايدولوجي الذي لا يرى في البشر ولا في معاناتهم.   سوى وقود أو أدوات لتحقيق يوتوبيا متوهمة .
البيروقراطية والمأسسة من أكبر المظاهر التي صاحبت الحداثة ، وهي بالأساس نزع للطابع الشخصي عن الإدارة وإستبداله بنظام قائم على الكفاءة والتراتبية وحكم اللوائح المعقلنة لتحقيق الأهداف المحددة بالشكل الأمثل . في هذا الصدد اعتبر أن منظمات المجتمع المدني  والمؤسسات غير الحكومية هي مأسسة للشفقة وعقلنة لها ، اي نزع للطابع الشخصي عنها ، بدلاً من الشفقة والتعاطف المحكوم بالعرق ، والدين والجغرافيا والايدولوجيا ، يتحول إلى تعاطف محكوم ومنظم بقوانين ومقسم وفق. معايير متفق عليها إلى درجات من إبداء القلق والمناشدات وحتى التدخل العسكري ببنود مجلس الأمن .
فإذا كانت المنظمات غير الحكومية مأسسة للشفقة ، فإن الحزب السياسي المعارض هو ماسسة التذمر ، لتنميته وتحويله لفعل اجتماعي مؤثر ، والمفارقة اننا نعارض المنظمات لأنها تتعامل مع المشكلات الإنسانية دون التطرق لجذورها أو الحلول النهائية لها ، ثم في نفس الوقت ندين الأحزاب لأنها تتعرض للأزمات وفق تصوراتها الخاصة لجذورها في إطارها السياسي وتطرح مع كل أزمة مقترحاتها للحلول ، فنعتبر المنظمات متواطئة ، والأحزاب إتهازية مع أن الاثنين يقومان بمهمتهما التي قاما لأجلها . فعندما يبتدئ سيناتور أميركي معارض مساءلته لمسؤول حكومي بخصوص تعامل الحكومة مع كارثة طبيعية مثلا ب " الشعب الأمريكي يريد أن يعرف .." لا يتم إعتبار هذه " متاجرة " أو انتهازية ، لكن عندنا يكون الناشط السياسي هو نفسه الناشط الطوعي ، وتختلط مهمة الحزب بمهمة الجمعية الطوعية ، فتشتبه علينا الأمور .
أعود مرة أخرى إلى قصة النيل الأزرق ومخاوف الكوليرا ، فاتساءل : هل هذا التعاطف الكبير مع " انسان النيل الأزرق " نتاج تقدم تدريجي نحو ضمير سوداني أو حس عاطفي مشترك ، ساهمت وسائل التواصل الحديثة في تعزيزه ، وكان غياب هذه المنابر الإعلامية المستقلة مؤثراً في ضعف التعاطف مع بدايات أزمة دارفور وقبلها الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق ؟ أم أن طبيعة الأزمة وطبيعة مسببها كونه بكتيريا لا تفرق بين قبيلة وأخرى وقد تصل إلى أبعد الأماكن ، وليس مليشيا متوحشة تعرف من تقتل هو سبب التعاطف ؟ هل هذا التعاطف رفض لموت الإنسان أم خوف من توسع دائرة الموت ، وقد قرأت مسبقاً تعليقاً على الحوادث يتحدث عن كون أبناء المناطق المتضررة " سيعودون " بعد إجازة عيد الأضحى . لكن مع هذا الاحتمال القاتم تظل نسبة التضامن الحالية مؤشر إيجابي يستحق الإحتفاء به بصرف النظر عن النيات والدوافع .
ختاماً : كان يهوذا الاسخريوطي خائن المسيح مزاوداً ، احتج على شراء عطر بحجة موجة الفقراء لثمنه ، فقال له المسيح " الفقراء معكم في كل حين ، أما أنا فلست معكم في كل حين " ، أحيانا أحس أننا بحاجة للمسيح ليقول ، لمن يعترضون على تنظيم مسابقة رياضية ، أو علي الذهاب للحج ، أو طلي سقف الفاتيكان بالذهب ، أو ذبح الخراف في عيد الأضحى ، وأحيانا أحس أنه كما أن يهوذا لم يكن همه الفقراء فعلا ، أيضا ليس الفقراء هم المحتجين ، بل همهم تسجيل نصر ديماغوغي لايدولوجياتهم المحددة ، وهذا هو الاغتراب بعينه .


هناك تعليقان (2):

  1. كلامك جميل لي فترة مهتم بالسجالات حول المنظمات التطوعية والاحزاب السياسية،والوظائف التي يجب ان تؤديها.المقال جميل جدا

    ردحذف
  2. مقاربة عميقة
    شكرا للمحاولة الجادة لفك حالة الالتباس بين المسالة المجتمعية والسياسية
    نظل حراس نوايا ان نظرنا علي المسالة فقط من الجانب الزاتي دون البحث عن المخرجات
    شكرا امادو

    ردحذف