السبت، 28 يناير 2017

تموز السوري في خدر مهيرة


بالتزامن مع تحول حلم السوريين بالحرية و الديمقراطية إلى كابوس طائفي ظلامي ديني  ، بدأ الخروج والشتات السوري العظيم ، فحل محل كل أبي غسان سوري يخرج  أبو قتادة شيشاني ، وأبو مصعب حجازي . الزلمات الأقل شقاءا وجدوا طريقهم إلى  ما قال عنه مواطنهم محمد الماغوط " أرصفة أوروبا الرائعة ، الحجارة الممدة منذ الاف السنين " ، أما الأقل حظاً فجاءت بهم الأقدار الى السودان  الذي ينام ويصحو سكانه على حلم الهجرة بعيدا عنه . فمان الإستقبال والإحتفاء الرسمي والشعبي بهم خير إعادة لقصة الحبشة التي فيها ملك لا يظلم عنده أحد ؛ وأحد هنا تعني أجنبي ذو بشرة فاتحة .

لا أعرف شخصياً اي سوداني تزوج سورية  ، ولم أر أي إعلان عن سوريات للزواج . ولكن هناك مقولات مشهورة عن زواج السودانيين بالنساء السوريات . مما أعاد فتح النقاشات المعهودة و العقيمة حول " الإستلاب السوداني نحو العرب " ، في الدائرة الضيقة لصفوة المتعلمين ذوي التوجهات السودانوية . لكن لم يحدث أي تذمر شعبي واسع النطاق و إحتجاج على هذه " الظاهرة " إلا مع قيامة تموز ، أي السوري الذكر ، وعندما أراد النساء السودانيات أن يقمن بواجبهن في مساعدة إخوة الإسلام و العروبة إسوة باخوانهن الرجال ، وشوهدت السودانيات في المنتزهات و المطاعم و الشقق المفروشة برفقة رجال سوريا ، عندها حدث الضجيج وشرعت الخرطوم تولول وتهدد و تتحسر .

أحيانا أظن أن لديا كسودانيين عادة أن لا نأخذ أي من الشؤون العامة بجدية ما لم يتم جنسنته ، أي ترجمته إلى صيغة جنسية قادرة على التأثير ، ولنأخذ هذه النماذج على سبيل المثال : أستطاع الأستاذ محمود محمد طه أيام الإستعمار تعبئة الجماهير الشعبية بمنطقة رفاعة ضد الحكومة ، عندما أستطاع أن يضغط ويكثف نزعته الوطية في مقولة  " الإنجليز دايرين يتدخلوا في **** بناتكم " لا اعرف ما المفردة التي تأخذ محلها النجمات ، ولكن بما أن الأمر متعلق بالختان الفرعوني فهي غالبا " مهابل " أو ما يقابلها بالعامية ،  وكذلك أستطاع حسن الترابي أن يزج بآلاف الشباب في حرب الجنوب بعد أن تم جنسنة كل القضية و اختصارها في رغبة جون قرنق في شرب جبة في المتمة ! والآن يعتمد اعلام النظام السوداني في دعايته الشعبية في التخويف من اغتصاب رجال الجبهة الثورية ل " بناتكم " ،  وقيل أن المثقفين الذين كانوا يدعون في فترات مختلفة للوحدة مع مصر كان لهم مؤيدون في الأوساط الشعبية بحجة " كويس منها نشبع لحم أبض ذاتو " !

لا تخرج من إطار الترميز الجنسي حتى الزاينوفوبيا و كراهية الأجانب في السودان ، سبق وأبديت أنا نفسي دهشتي الشديدة عندما قرأت تحقيقا في إحدى الصحف كتبته صحفية يسارية التوجه حول " الإثيوبيات " ودورهن في التحلل الأخلاقي و " الرذيلة " ! بل أن التذمر من الوجود الإثيوبي والأريتري لا يجد صيغة يعبر بها عن نفسه سوى الحديث عن الدعارة و الأمراض المنقولة جنسيا ، يندر جدا أن تجد خطاب كراهية أجانب يتحدث عن أزمة البطالة و ضيق سوق العمل مثلا ، كما هو الحال في بلد متخلف اخر مثل السعودية التي يؤسس  خطاب معاداة الأجانب فيها مشروعيته على حجج  سودو- إقتصادية  ركيكة .


 عندما كنا مشغولين بالدعوة  للعصيان المدني الثاني في 19 ديسمبر 2016 ، كانت الأوساط ذات الفعالية السياسية المتدنية  في ريف وسائط  التواصل الإجتماعي  مشغولة جداً بما أسموه " ظاهرة " علاقات السوريين بالسودانيات ، وكالعادة تم اعتبار الأمر بواسطة الصفوة المصابة بالإغتراب السياسي نوعاً من الإلهاء يقف خلفه النظام لصرف الإنتباه عن التعبئة السياسية ضده ، وضعت كلمة ظاهرة بين الأقواس استهجانا لوصف بعض العلاقات بين رجال سوريين و نساء سودانيات بظاهرة ، لكنني أقول بثقة أن تسفيه قضايا الرأي العام التي ينشغل بها الجمهور من حين لآخر بواسطة الصفوة السياسية ودمغها دائما بأنها محاولة لصرف الإنتباه عن حدث سياسي متزامن يستحق أن يوصف بأنه ظاهرة جديرة بالتحليل . عموماً استمر الهيجان و التعبئة ضد السوريين حتى بعد أن تراجع التصعيد السياسي ضد النظام بنهاية العصيان .

في معظم مدن جنوب السودان الكبيرة مثل ملكال و جوبا يكون هنالك حي باسم " الملكية "  يقطنه أبناء الجنوبيات من علاقات مع شماليين في حينها ، سودانيين الآن  " جنود ، تجار موظفون " سواء كانت العلاقات قانونية شرعية أم لا ، بالتراضي أم لا .  تنتهي علاقة الأب الشمالي مع ابنه  من الجنوبية  في أفضل الحالات مع نهاية علاقته بالجنوب  . وتعطي قصة رجل أعرفه ينتمي لإحدى قبائل شمال السودان تفسيراً لهذا الأمر ، فقد قال بكآبة عدما سئل عن السبب في عدم عودته الى قريته البعيدة إطلاقا بعد زواجه من أمرأة في مدينة الكرمك بالنيل الأزرق و إنجابه لعدد من الأبناء  منها أن أهله لن يقبلوا أبناءه أبداً  ، وسيلفظونهم لفظ النواة . بينما أهله يفسرون الأمر بوقوعه ضحية للسحر .  أورودت هذه المقدمة لأورد إنطلاقاَ منها تحليلي  لواحدة من أهم حجج المتذمرين من علاقات السودانيي و السوريين ؛ وهي أن السوري غير جاد في حب السودانية ، ولن يستمر حتى لو تزوجها ، فالسوداني هنا يضع أخته مكان المرأة الجنوبية التي يهجرها عدما يغادر الجنوب ، ويضع السوري في مكانه الشخصي ، أي أن قانونه غير المكتوب الذي يجعله يضع نفسه فوق الجنوبي ، يواصل عمله ويضعه تحت السوري ، ولذا يؤمن أن السوري لن يحترم أخته تماما  كما يؤمن رجل الكرمك أن أهله لن يحترموا أولاد ، الذين لم يمنعه حبه لهم لدرجة تفضيلهم على بقية أهله  من النظر إلهم كعاهة يخفيها و يختفي بسببها .


هناك حجة أخرى تحاول أن تلتف على الموضوع بالتركيز على كون معظم علاقات السوريين مع السودانيات غير شرعية وأنهم لا يمانعون زواج السوري ، وأن هذا يعتبر غدر وخيانة لشعب أكرم نزلهم . وهذه الحجة سخيفة فلا معنى لتخصيص السوري ما دام الرفض مسبب بلاشرعية العلاقة ، فالأجدر هنا أن تكون الحملة ضد العلاقات غير الشرعية بعامة وليس علاقات السوريين غير الشرعية مع المواطنات .
 قليل من التحليل النفسي بالتكامل مع التحليل الثقافي أعلاه يعطي إضاءة أكبر لفكرتي عن أصل المسألة . للرجل السوداني أساطير محببة حول فحولته و تفوقه الجنسي على بقية " أشقاءه العرب " وعن إعجاب النساء العربيات السري بفحولته ، وإشتهاءهن إياه ، ولننظر هنا للأساطير التي يبرع العائدون من الاغتراب خاصة في الخليج نسجها عن شغف العربيات و حتى الأوروبيات  بهم . وعليه فعندما تغمز مهيرة من وراء ظهر الزول لتموز السوري فإن هذا تجديف على عقيدة الفحولة السودانية لا يغتفر  . ووفقاً لنظرية فرويد عن كون وجود رجل ثالث مغبون يكون انتزاع الحبيبة انتصاراً رمزيا عليه ، كون وجود هذا الرجل الثالث المغبون  أحد أهم شروط الحب عند الرجل ، فإن حب السودانيات للسوريين يحول كل الرجال السودانيين فوراً إلى ثوالث مغبونين ، وأفهم من تفاخر بعض السوريين في الإنترنت أن السودانيات يفضلنهم ، أن هذا صراع بين سردية الفحولة السورية و سردية الفحولة السوانية ، فالرجل السوري يقول للسوداني أنه هو الفرد ألفا الذي يحصل على كل إناث القطيعين السوري والسوداني  ؛ إنها فحولة تموز  تشهر خصيتها في وجه فحولة الزول ! بينما افهم تذمر الرجال السودانيين أنه غضبة الفرد بيتا المغبون الذي اصبح يهدد ويتوعد بعد أن أحس بالعجز التام عن مجاراة غريمه تموز،  بعد أن أيقظ فيه تموز مخاوف الخصاء الطفولية دفعة واحدة  .


نقل الترابي عن البشير أنه وصف اغتصاب الشمالي لامرأة دارفورية أنه شرف لها ، ووفقاً لمنطق البشير وأسسه التي يفاضل بيها بين البشر ،  فإن زواج سوري أو إقامته لعلاقة بالتراضي مع سودانية هو  إتمام لنعمة الله عليها . وما نقله الترابي عن البشير هو تمظهر مكثف لعنجهية السوداني العربي المسلم التي يمرغها تموز في الوحل ، والتي كان الترابي نفسه أيام جهاده يوظفها خير توظيف ضد الجنوبيين .

 تكمن الضرورة الوجودية للتنوير في كونه في المقام الأول تحرير ، تحرير للذات السودانية  من العبء الثقيل الذي ترزح تحته ، ثقل عقد البطريركية والعنصرية وعقد النقص والتفوق ، تحرير من خنق عادات القبيلة ومنطق إنسان الكهف الذي يجعل الإنسان السوداني صيدا سهلا لكل دجال ومغامر سياسي يجيد مخاطبة الغرائز والخرافات القارة ، كما هو حال معظم الخطابات السياسية والدينية التي تسيطر على اعرض قطاع من الرأي العام السوداني حاليا .
من الطريف أن هناك تعليق دائما ما يرد في النقاشات حول قصة تموز ومهيرة ، هو أن المشكلة في " بناتنا " ، وهو بالنسبة لي عكس الصحيح ، أن كانت هناك مشكلة فهي مشكلة ذكورية بحتة  ، ومن الأفضل التعامل مباشرة مع الوساوس النفس - جنسية والعنصرية خلف الموضوع ، وليس تضييع الوقت في التعامل مع الحجج الرسمية المعلنة ذات الطابع الديني ، الأخلاقي وحتى الوطني ألبطولي ، التي يواري تحتها   رجال السودان - ونسأءه ذوات الوعي التابع - أوهامهم البدائية التي فات أوانها . 

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

كيف يعزز الفيسبوك ثقافة الديمقراطية


بعد عام بالضبط من ميلاد مارك زوكربيرغ فرغ السودانيون من إسقاط نظام الديكتاتور جعفر نميري ، مدشنين بذلك فترة الديمقراطية الثالثة في تاريخهم بعد الاستقلال ، المكون من عهود ظلمات استبداد طويلة ، تتخللها ومضات واشراقات ديمقراطية خاطفة ،  لم تستمر الديمقراطية الأولى بعد الاستقلال سوى عامين ، وهي المسبوقة  بظلام القرون ، اعقبتها ست سنوات استبداد  عجاف أسوأ ما فيها أنها عقدت قضية الجنوب للغاية ووضعت بذرة الانفصال التي أثمرت في عهد الشمولية الأفظع والأطول الحالي . أعقبت الخمس سنوات الديمقراطية بعد أكتوبر ست عشر سنة من الديكتاتورية ، ثم أربع سنوات ديمقراطية بعد ثورة مارس/بريل ، وبعدها دخلت البلاد في عهد الشمولية الاسلاموية  ، الذي لم ينته بعد . هذه الدكتاتوريات المتتالية تنهي الاستمرارية اللازمة لتنمو فيها ثقافة الديمقراطية ، حيث يصعب أن تستقر الديمقراطية وتترسخ في مجتمع ما إن لم تتحول بالتدريج إلى ثقافة .ولا يمكن أن نتخيل نمو ثقافة ديمقراطية في ظل حكم غير ديمقراطي ، ولكن لدي ما يدفعني للاعتقاد أن هناك ثقافة ديمقراطية رفيعة للغاية تتخلق الآن ، وذلك بفضل الإمكانية غير المسبوقة التي تتيحها وسائط التواصل الاجتماعي .
قرأت كثير من الكتابات عن تسطيح الوسائط الاجتماعية للثقافة وابتذالها ، وتعميقها الانقسام الاجتماعي وتصعيد خطاب الكراهية ، وتشجيعها للغوغائية ، وخلقها لصناع رأي عام ونجوم مزيفين ومضللين ، بل وقرأت حتى عن كونها تعطل الحراك الثوري على الأرض ، وتلهي الشعب بعالم " إفتراضي " بديل . ولعل أبرز المهاجمين لوسائط التواصل إلاجتماعي من كبار المنظرين هو الروائي والمفكر الإيطالي أمبرتو إيكو الذي قال عنها  في حوار نقله للعربية صالح علماني أنها  «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».
 وسائط التواصل الاجتماعي لم تأت بأي من الظواهر أعلاه ، بل ظلت هذه الظواهر موجودة على الدوام ، بل إن الوسائط الاجتماعية توفر بدائل لم تكن متاحة لظهور خطابات مضادة للخطابات الرسمية المفروضة .وعندما أتحدث عن الفرض والالزام فأنا لا أعني فقط ما يفرضه الإعلام الديكتاتوري ، بل أيضا ما تفرضه النخب الثقافية والمؤسسات التي يستحيل الاعتقاد  إنها محايدة بشكل مطلق ، حتى جائزة نوبل التي جعل امبرتو ايكو مجرد الفوز بها يعطي الشخص الحق الحصري في الكلام تم اتهام نزاهتها وحياديتها ورفضها بعض الأدباء لذات الأسباب اهمهم سارتر .
قبل الفيسبوك وتويتر بمئات السنين عرف العالم ظاهرة النجومية الغير مبررة ومطاردة الأضواء وشهرة انصاف الموهوبين ، وظل الصفوة والنخب يشتكون من هذه الظاهرة منذ أيام ديوجينس الكلبي إلى أبي العلاء المعري إلى محمد المهدي المجذوب ، كما ظلت قوائم الكتب الأكثر مبيعا محجوزة لكتب توصف على الدوام بالمبتذلة . أظن أن الفكرة اتضحت الآن ، إذ ليس هدفي الأساسي الدفاع عن الوسائط الاجتماعية ، بل تبيان أثرها فى تعزيز ثقافة الديمقراطية في مجتمع ظلت تتخطفه الديكتاتوريات مثل السودان .
يدخل السوداني الفيسبوك فيجد نفسه وسط عشرات بل مئات الرؤى والأفكار المتضاربة ، وهو المعتاد على الثقافة الأحادية ونمط الحياة الجاهز المثالي اللاشخصي  ، مع أنه يكون وسط أهله وأصدقائه وزملائه ومعارفه إلا أنه يتفاجأ في الفيسبوك بجوانب من فكر واهتمامات هؤلاء الناس ما كان له أن يراها خارجه ، يجد أن مسلماته وحتى مقدساته - التي ظنها قوانين الطبيعة - محل نقد وتساؤل من أشخاص غير مجانين ولم يهبطوا من كوكب آخر . ويجد من يستبيحون ما يظنه محرما ، ويستسهلون ما يحسبه مستحيلا ، ويجد من يشاركونه اراءا أو اهتمامات ظل يعتقد  أنه الوحيد الذي يعتقدها أو يهتم بها ، ويجد أن قصة حياته التي ظل يراها فريدة تشبه قصص حياة آخرين غيره . يجد الاختلاف بكل أنواعه حاضرا بقوة . وفوق كل ذلك يجد أنه ليس باستطاعته - كما اعتاد - ان يمنع المختلفين من الاختلاف ، وأن أقصى مقاومة يمكن ان يقوم بها هي أن لا يهتم أو أن  يسعى لمنع المختلفين معه من ازعاجه باختلافهم بحظرهم . وقد يفهم أن الفيسبوك يظهر الخلافات فقط ولا يصنعها . وأخيرا يجد السوداني المكان الذي يستطيع ان يعبر فيه بلا خجل عن حبه ! لأسرته ، لاصدقائه ، لشخص محدد ..الخ ، ويجد المكان الذي يستطيع أن يجرب فيه طاقاته القصوى ويفعل ما يخجل ، يخشى أو ينسى ان يفعله بالخارج ، سواء باسمه المعروف أو من وراء اسم مستعار .
 أنا مع فكرة النسق الحضاري ، حيث أن لكل حضارة نسق فكري وتصور كامل للعالم ينعكس  يتمثل في أي منتوج مادي لهذه الحضارة ، والفيسبوك  منتوج مادي للحضارة الحديثة ، حضارة العقل  والفرد والحرية ، حضارة المجتمع المفتوح والنظام المعرفي  المفتوح ، الحضارة التي تبيح النقد حتى لأساسياتها . والديمقراطية ومنظومة القيم الديمقراطية من أهم مرتكزات  هذه الحضارة ؛ ولذا اعتقد ان الديكتاتورية والظلامية الدينية باتت تلعب خارج ملعبها وبغير شروطها . ولذا يقع السودانيون بوصفهم من رعايا الحضارة التقليدية في شرك مكر الحداثة والتفافاتها ، ويتعرضون للعلمنة اللاواعية والمقرطة اللاواعية - مقرطة صيغة تفعيل معربة من  ديمقراطية - عندما يتعاملون ب/أو مع منتوجات الحضارة الحديثة مثل الفيسبوك .
عندما تنضم لمجموعة على الفيسبوك أو تتابع صفحة تخص من يشاركونك اهتماما معينا ،أو حتى بدافع التطفل والفضول فأنت تمارس حرية التجمع وهي قيمة ديمقراطية وحق إنساني ، وكذلك عندما تقوم بتنظيم او دعم حملة لغرض معين ، حتى لو كانت هذه الحملة لإغلاق صفحة أو حظر حساب شخص تختلف معه ، فأنت ملزم بالاحتكام بمبدأ الأغلبية الديمقراطي ، إذ يجب أن يكون من هم مع حملتك أكثر من مناهضيها ، وأن تقدم أسبابا منطقية - بمنطق الديمقراطية لا منطقتك أنت - مثل انتهاك الخصوصية ، أو إثارة الكراهية أو الحض على العنف والجريمة ، لكي يتم الفصل في دعواك ، وهنا مبدأ حكم القانون الديمقراطي ، إذ لن يتم حظر صفحة أو شخص لو قلت انه كافر أو لا أخلاقي - بمعاييرك الخاصة -  او معارض سياسيا ..الخ مثل ما قد يحصل في الخارج ، وقبل هذا حق حرية التعبير الديمقراطي الحر عن أفكارك و آراءك .
فلنأخذ المجموعة النسائية الشهيرة " منبرشات " وبقية المجموعات النسوية كنموذج ، فقبلها بمئات السنين ، اعتاد نساء السودانيات علي التجمع بإعداد صغيرة في حوش الحريم ،أو استراحات الطالبات  ، والثرثرة حول الرجال وحكاية قصص الاعجاب برجل معين وتبادل الخبرات والآراء حول هذا الموضوع ، في هذا الجانب منبرشات هو استمرارية لنفس الظاهرة بشكل أوسع بكثير من تجمع النساء التقليدي ، ومن جانب آخر هناك ثقافة جديدة هي إبداء النساء لحبهن أو اعجابهن بشكل جماهيري ، والتحدث أصالة عن أنفسهن عن معاييرهن وتفضيلاتهن الشخصية ، بعد أن ظللن لقرون محكومات بتصور ذكوري للجمال النسوي نفسه ، ويتبادلن الكثير من المعلومات حول همومهن الخاصة وقضاياهن ويتعلمن من بعضهن البعض في شتى المجالات ، ومرة أخرى هذه هي فكرة حق التجمع والحقوق الثقافية والاجتماعية ، لكن الأهم من كل هذا أن النساء انطلقن لموقع الفعل ، فلم يعد فقط التاريخ الشخصي للمرأة هو المهم أو أن سمعتها مثل عود الثقاب ، بل أصبح التاريخ الشخصي للرجال وعلاقاتهم وأساليب حياتهم  أيضا محل تساؤل عمومي من النساء أنفسهن ، وليس البحث التقليدي الذكوري النظرة  الذي تقوم به الأسرة عن المتقدم لخطبة البنت .
من خلال الفيسبوك استفادت مجموعات شبابية كثيرة من حرية التجمع ، واستطاعوا بجهود جماعية إنجاح مبادرات سياسية وخيرية وفنية كثيرة ، مثلا مبادرة " نفير " و " شارع الحوادث " و " مجموعة محمود في القلب " و الكثير غيرها ، ولابد أن نتذكر أن مظاهرات 30 يناير 2011 ثم مظاهرات 2012 التي توجت بهبة سبتمبر المجيدة 2013 انطلقت من مبادرات لعب الفيسبوك بما هو وسيط ومنير إعلامي حر دورا كبيرا فيها .
أما بخصوص تهمة تسطيح الثقافة ، فبصفتي المهنية كبائع كتب أقول أن ظهور الوسائط الاجتماعية خاصة الفيسبوك قد ساهم مساهمة كبرى في زيادة الإقبال على الكتاب الورقي والإلكتروني ، من خلال تبادل الافادات في المجموعات المختلفة حول الكتب ، ومهد الفيسبوك لظهور كتاب كثير منهم جيدون  ما كان لنا أن نسمع بهم لولاه .

الديمقراطية هي النقاش ، و ما يحدث في الفيسبوك السوداني هو النقاش ، نعم النقاش ،  الذي قال عنه تشرشل " ان أكبر تهديد للديمقراطية هو نقاش لخمس دقائق مع ناخب متوسط المستوى " ، وهؤلاء العامة الذين وصفهم امبرتو ايكو ب " فيالق الحمقى " هم نفسهم الشعب صاحب السلطة المطلقة في الأنظمة الديمقراطية ، وعلينا - نحن اللاعامة -أن لا ننزعج من كثافة حضورهم ، الديمقراطية تعني انك ملزم بسماع رأي من تظنه احمقا ، فكما يعلمهم الفيسبوك ان يكون لهم آراء خاصة وأن ينتقدوا الآراء التي يرونها خاطئة بطريقتهم العامية في النقد ، فيجب أن يعلمنا ان عهد الصفوية والنخبة التي تضع المعايير على مقاسها يكاد ينتهي ، وعلينا أن نعد أنفسنا لعهد جديد غير مسبوق ، أكثر تباينا وأكثر ديمقراطية ، بعد أن أصبح الذين لا ناموس لهم ، ناموس أنفسهم .
أنا واعٍ للطريقة التي استعملت بها الضمائر في الفقرة السابقة مباشرة ؛ نحن وهم ، نحن الصفوة وهم الحمقى ، ذلك أنه ما ان نشر صالح علماني ترجمته لرأي امبرتو ايكو حتى انتشر في الفيسبوك انتشار النار في الهشيم ، ولابد أن كل من ينشره يصنف نفسه ضمن الصفوة المتأففين من إعطاء حق التعبير لفيالق الحمقى وهنا يكون تعريف الأحمق " من ليس أنا "  . الديمقراطية هي النظام الوحيد الذي لديه تصور لحل هذه المعضلة ، معضلة المعيار والسلطة ،  بتفتيتها للسلطة أفقيا بالفيدرالية وراسيا بفصل السلطات  ، وباتاحتها لحرية التعبير ، وحفظها للحقوق الأقليات مع الاحتكام للأغلبية .ولعل تذمر من يعدون أنفسهم صفوة يعود لمصادرة ديمقراطية مارك زوكربيزغ لامتيازهم التاريخي باحتكار التعبير .
اعتبر تزايد المشتركين السودانيين في الفيسبوك علامة حاسمة على توقهم الأبدي للحرية ، ولقبولهم بمبادئ الديمقراطية ، تماما كما يدل على ذلك هجرتهم الكبيرة للعالم الديمقراطي حيث الحرية والاختلاف واندماجهم فيه. كما لا انزعج من ظاهرة " مدمني الفيسبوك " واعتبرها ظاهرة صحية بل وطبيعية ، فالإنسان يذهب إلى حيث يُحترم ويشعر بقيمته ، حيث يتكلم بلا خوف ، ويشارك ويحاول أن يؤثر ، حيث يستأنس برفقة من يشاركونه حتى أغرب الاهتمامات ، وحيث يكون هو هو ، فمن الطبيعي أن يهرب من " العالم الافتراضي " الذي نسميه الواقع الموضوعي ، إلى حيث يكون إنسانا في " العالم الحقيقي " عالم الوسائط الاجتماعية الحرة . العالم الذي لا يستطيع الإنسان فيه تحقيق ذاته واختبار قصارى قدراته لا يمكن أن نسميه عالما حقيقيا ، وما الواقع سوى أوهام نسينا أنها كذلك كما يقول نيتشه ، وأظن أن تراكم الوعي الديمقراطي الذي يتم عبر الوسائط الاجتماعية سيؤدي عاجلا أو آجلا إلى هدم الجدار الفاصل بين العالمين .









الخميس، 6 أكتوبر 2016

صحوة الطبقة الوسطى

إضراب الأطباء هو صحوة الطبقة الوسطى التي تم اضعافها وتقزيمها ، وترحيلها لخارج السودان ؛ الطبقة الوسطى السودانية موجودة نعم ، لكن بشكل أساسي خارج السودان ، الأطباء جزء من بقايا الطبقة الوسطى في السودان . هذا الجزء من الطبقة الوسطى منقسم بين الأمل في قفزة كبرى إلى نادي المليونيرات والخوف من السقوط إلى الحضيض ، هذا القلق والاهتزاز  سمة عامة للطبقة الوسطى في دول الاقتصاديات الغير مستقرة ، والاضطراب السياسي - وليس دائما كما يقول الماركسيون - ، صغار الاطباء في القطاع العام يكادوا يكونون داخل الطبقة الفقيرة ، بينما قلة من كبار الاختصاصيين المرتبطين بالنظام أو المحايدين  ترتبط مصالحهم بالاقلية الغنية . كان المعلمون في يوم من الأيام جزءا من الطبقة الوسطى ، ثم هبطوا بالكامل تحت مستوى الفقر ، وشرح معظمهم بالفقر صدرا ولم يعودوا يصدرون اي تذمر ، وتفننوا في اقتصاد المباصرة والكفاف ، على أمل أن يقوم أبناءهم بالنقلة الطبقية التي يئسوا منها .
في شعار #عشانك_يامواطن الذي يجري تحته الإضراب ، يمكن إستبدال كلمة مواطن ب فقير ، حيث يعبر عن ارتباط مصالح الطبقة الوسطى السفلى مع الفقراء ، فنجاح الإضراب وتحقيق مطالبه يتضمن تحسين الخدمة الطبية للفقراء مرتادي المشافي الحكومية ، وتحسين شروط العمل لصغار الأطباء . يحتاج اي اضراب لكي ينجح ان يشكل ضغطا حقيقيا ضد السلطة التي يتم ضدها ، وهي هنا الحكومة ، فمجرد امتناع الأطباء عن العمل لا يشكل ازعاجا لهذا النظام ، بل ما يزعجه هو أن يؤدي ذلك لسخط ثم فعل احتجاجي كبير من المتضررين من هذا الامتناع وهم الفقراء مرتادي المشافي الحكومية ، ذوي الوعي السياسي والحقوقي الضعيف ، الغير منظمين . نجاح الإضراب يتطلب استجابة الفقراء الإيجابية ، ولكن في الظرف السوداني الراهن فإن هذا قد لا يكون مؤكدا ، فمثلا قد يفضل الفقراء أن يتجرعوا السم ويكلفوا أنفسهم فوق طاقتها للبحث عن بديل علاجي ؛ اي سيناريو الخلاص الفردي المعتاد ، والمتوقع في ظل تدني الوعي بالحقوق وروح اليأس التي سببها القمع المتواصل والخيبات السياسية الكبرى . في وضع كهذا فإن إضرابا لعمال الشحن و التفريغ في الموانئ قد يكون أبلغ أثرا من إضراب الأطباء ، في بلد باتت تستورد كل شيئ تقريبا .

سيفعل النظام اي شئ لإفشال الإضراب ، فهو يعلم خطورة تململ الطبقة الوسطى والعواقب الوخيمة التي سيجرها عليه نجاح مثل هذا الإضراب ، وقد ظلت سياسة النظام هي القمع المبالغ فيه لأي حراك احتجاجي مهما كان محدودا ومهما كان سقفه منخفضا ، من بدايات الاحتجاج النخبوي الخافت في دارفور  الذي انتهى لحرب أهلية بسبب قمعه ، وحتى أصغر الاعتصامات الطلابية واحتجاجات المعاشيين والمتضررين من تخطيط المدن والمتذمرين من انقطاع خدمات المياه والكهرباء . فإذا كانت هذه هي استراتيجية النظام ، فاستراتيجية المعارضة ينبغي ان تكون هى العكس ؛ اي توسيع دائرة الاحتجاج ،  دون رفع سقفه إلى سقف برنامجها السياسي ، والعمل على إنجاح الاحتجاج . في حالة اضراب الأطباء فلا يكفي فقط تأييد الإضراب بالبيانات وتوجيه الكادر والمتعاطفين لانجاحه ، بل ينبغي بالإضافة لذلك العمل للخطوة الأخرى الحاسمة وهي تنظيم المتضررين منه لكي يضغطوا على النظام . بدون هذه الخطوة قد يستمر الإضراب شهورا بلا جدوى .
سواء تحققت المطالب ام لا ، فهذا الإضراب في نفسه دليل ان السودانيين ، رغم كل هذا الابداع في القمع والتجزئة والاستزراع المتواصل لثقافة الخنوع والانقياد والخلاص الفردي ، لم ينسوا أبدا النضال من اجل الحياة والحرية والسعادة وتحقيق الذات ، وظلوا وسيظلون يبدعون الاشكال الاحتجاجية الملائمة لتحسين شروط وجودهم ، تخيل بعضنا بعد الوحشية التي قمع بها النظام هبة سبتمبر المجيدة انه لن تندلع أبدا حركة احتجاجية جديدة . فإذا باطباء السودان يفاجئونا بحراك احتجاجي أكثر تنظيما وأكثر وعيا ورقيا . وينطلق من صفوف الطبقة الوسطى ذات الوعي السياسي والحقوقي المرتفع والآمال العالية ، وبانحياز تام للفقراء والمستضعفين يعبر عنه شعارهم : عشانك يا مواطن . وكما قال الإنجيل عن يوحنا المعمدان ، فقد لا يكون هذا الإضراب هو النور ، لكنه جاء ليشهد للنور ، أما النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان فآتي إلى السودان ، وعما قريب يصبح الصبح تماما .


الأحد، 2 أكتوبر 2016

العقل الرعوي أم الفساد السياسي؟

هذا تعليق على مقالين للنور حمد الأول هو مقال "  التغيير وقيد العقل الرعوي " المنشور بموقع الراكوبة ، ومقال " وهم الصعود للحداثة. بغير رافعة " المنشور بالعدد الثالث من مجلة الحداثة السودانية .
أستطاع النور حمد ببراعة أن يعيد  قضية التحديث
في السودان  للواجهة مرة أخرى ، بعد عاصفة التعليقات على مقاله " التغيير وقيد العقل الرعوي " ، وأود التنبيه إلى أن نشر حمد لهذا المقال جاء متزامنا أو مقاربا لنشر مقال له في العدد الثالث من مجلة الحداثة السودانية أسماه " وهم الصعود للحداثة بغير رافعة " وقراءة المقالين معاً ، تعطي إضاءة أفضل لفكرة حمد .
نقطة قوة مقال النور حمد هي نفسها نقطة الضعف التي هوجم من خلالها ؛ اي ميوعة مفهوم " العقل الرعوي " وعدم انضباطه كما أشار لذلك عبد الله علي إبراهيم ، في تعقيبه على مقال النور حمد المعنون " النور حمد : نطاح الحداثة والرعوية " والبروفيسور عبد الله علي إبراهيم أكاديمي ضليع واعتراضه مؤسس على احترام التقاليد الأكاديمية ، لكن الإيجابي في لا أكاديمية طرح النور حمد هو أن الانضباط الأكاديمي المهووس بالكمال المرعوب من الخطأ ، يجعل الفكر بارداًً وربما مملاً ، وما كان لمقال النور حمد ان يثير كل هذا النقاش لو جاء أكاديمياً متوسلاً للكمال.  ولا شك أن النور من صفوة الانتلجنسيا السودانيين ولا يُعقل الإعتقاد ان هذه المآخذ قد تفوت عليه ، ولكن وهنا ما يعجبني في طرحه أنه غامر بكل الرصانة الأكاديمية مقابل إعادة إنعاش النقاشات العامة وتلقيحها لتثمر ، هذه هي الفضيلة النتشوية ، إذ قدم النور نفسه كمثقف مشغول ومتورط للنخاع في ازمتنا الوطنية وليس مجرد مراقب خارجي بارد . أظن أن النور اكتسب هذه الفضيلة من تتلمذه النجيب على محمود محمد طه ، واستمد منه هذه الروح المغامرة الشجاعة ، إذ أن جوهر الفكرة الجمهورية افتراض يصعب إثباته لا  بالطرق الأكاديمية ولا بالطرق الفقهية التقليدية . وفي أوقات الانسداد الشامل فإن مثل هذه الطريقة فعالة في إعادة طرح الأسئلة ، كما تحدث كارل بوبر عن الانطلاق من افتراض بدلا عن ملاحظة ، في مشروعه لنقد وتطوير المنهج العلمي .
فكرة مقالي النور حمد - كما فهمتها -  هي التقدم التحديثي ثم التراجع إلى أوضاع قبل حديثة بسبب تأثير " العقل الرعوي " الذي يتخلل ثغرات الحداثة ويكمن تحت قشرتها في انتظار ضعف مناعتها . وهذه الفكرة ليست غريبة على الفضاء الثقافي السوداني ، وقد سبق وتحدث حيدر إبراهيم علي وعبد العزيز حسين الصاوي عن ما أسموه " الارتداد التحديثي " و " الانكفاء الحداثي " ، وقد ذهب كل منهم مذهبه في تشخيص أصلها ، أما النور حمد فقد ارجعها ل " العقل الرعوي " ذي الطبيعة الهيغلية ، بما هو جوهري لا يتأثر بالتغييرات الموضوعية ، وهذه فكرة لا أتفق إطلاقا معها . أحس أن  فكرة النور حمد - مرة أخرى كما فهمتها -  تطبيق ل"فلسفة تاريخ " مع أنه استهل مقالة " التغيير وقيد العقل الرعوي " بإقتباس من جون غراي  ضد فكرة التقدم في التاريخ الهيغلية الماركسية واعتبرها من خرافات الحداثة ، وأنا اشتبه ان هذا يجافي فكرة النور حمد ويناقضها ، فمشكلة " العقل الرعوي " أنه يقطع طريق التقدم (لكن نحو ماذا ؟ ) ، إذا اقتبسنا فكرة كانط عن المفاهيم الثلاثة المنطبعة  السابقة على الوعي ؛ الزمان ، المكان والسببية ، فأنا أزعم أن فكرة التقدم أيضا أصبحت منطبعة في أذهاننا لدرجة كبيرة ، حتى ونحن ننتقدها .
في نفس العدد الثالث من مجلة الحداثة الذي اثراه النور حمد بنشر مقالة "وهم الصعود للحداثة بغير رافعة " نُشرت حوارية شاركت فيها مع عدد من الشباب    ، كان موضوعها مفهوم الحداثة من وجهة نظر جيل جديد  ، تطرق فيها المشاركون أيضاً لقضية الارتداد الحداثي ، كنت حريصا في مداخلتي ان لا أقع تحت إغراء تكوين نظرية تاريخ سواء خلدونية أو هيغلية ، أنا احس ان تواتر ظاهرة محددة في التاريخ ظل يغري المنظرين بالسعي لإيجاد خيط سحري ينظم كل هذه الفوضى ، وأن العقل الرعوي هو خيط النور حمد الناظم لتناثر هباتنا وكبواتنا . فيما يتعلق بالتاريخ فإن السقوط المدوي لسرديات التقدم الكبرى اورث الأجيال اللاحقة من المنظرين حذرا من تكرار ذات التجارب ، وسادت النظرة التي تنكر خطية التاريخ وغائيته مثل نظرة التي استهل باقتباسها النور حمد مقاله.  بالنسبة لي أجدني أميل إلى قول سيوران " لا يمكننا تعلم شئ من التاريخ فهو يحتوي على كل شئ " وتشخيص مؤرخ الأفكار البولندي ليشك كولاكفسكي للغرض من دراسة التاريخ بأنه أن  نعرف من نحن لا أن نعرف كيف يسير العالم وإلى أين .
بالعودة إلى نظرية النور حمد ، فسابدأ من الفترة التركية ، إذ أن المعلومات عن فترة الممالك المسيحية أقل من أن تصلح لاستنتاج شئ منها ، يصف النور التركية بأنها نفحة حداثية مست الدولة لا الأفراد ، أطاحت بها هبة رعوية هي المهدية . هنا أود أن أشير إلى تعجبي من الطريقة التي يستعمل بها حمد كلمة عقل ففي مقال مجلة الحداثة يقول " نجح الحكم الخديوي في استتباع العقل السوداني للعقل الخديوي المصري " حسبما فهمت فإن المفترض وجود عقلين بينهما صراع أبدى في اي مكان من يوغسلافيا السابقة حتى أميركا دونالد ترمب ، هما العقل الرعوي والعقل الحديث ، إلا أن هذا الجزء يشي بوجود تفاوتات داخل الرعوية بين رعوية الخديوي ورعوية السودانيين . أية استتباع العقل الخديوي للعقل السوداني حسب حمد هي اعتناق السودانيين لاطروحات القومية العربية والاستعراب وتنكرهم للجذور الأفريقية الكوشية وهذا يعود للبذرة التي القتها الخديوية . بالنسبة لي هنا الخلاف خلاف وقائع تاريخية فحركة الاستعراب وانتحال الأنساب العربية في السودان سابقة للغزو التركي حتى أن الفونج أنفسهم وحتى بعض سلاطين الفور قد انتحلوا انسابا عربية . بل إن التصوف الإسلامي الذي تحسر النور حمد عليه في جزء آخر من مقاله لحمته وسداه انتحال نسب عربي قرشي هاشمي . يقول النور حمد ان الخديوية جاءت بالفقه المدرسي و قضت على " مواريث التصوف السوداني المنفتحة على التحديث والتطور " والحقته بمنظومة الفقة المنغلقة التابعة لها ، الداعمة لاستبدادها ، وكل هذه الأفكار خلافية وفيها نظر . لا يسعني هنا إلا أن أذكر بخلفية النور حمد الجمهورية وخلاف مؤسسها مع مدارس الفقه التقليدية ومع مصر .
ينتقل النور الى المهدية ويقول أنها " خرجت من عباءة التصوف " ضد بطش واستبداد التركية ، وأنها بانتصارها على التركية. كانت ارتدادا عن المحدود الذي كسبته البلاد من قيم الحداثة . ثم ينكر كون المهدي مصلحا حقيقاً ؛ لأنه ادعى المهدية و" زعم أنه صاحب الكلمة الخاتمة " ثم يزعم أن " السودانيين " كرهوا المهدية أكثر مما كرهوا التركية  وقد وضعتها بين الأقواس حتى لا تختلط دلالة اللفظ في ذلك السياق مع المعنى الحالي ، الزعم ان السودانيين - كلهم -  كرهوا المهدية أكثر من التركية أيضا زعم مرسل رغبوي يكذبه واقع الشعبية الكبيرة التي يحظى بها حزب الأمة القومي لدرجة الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان في آخر انتخابات ديمقراطية في السودان . لكن بعض أصحاب الإمتيازات في العهد التركي عارضوا المهدية نعم واستعانوا ضدها بالاجنبي ، قال النور ان هذا " ضربة البداية في التنصل من الثوابت الوطنية " مع تحفظي على إدخال مفهوم وطنية في ذلك السياق واعتباري إياه مغالطة تاريخية ؛ ففكرة الوطن والانتماء الوطني لم تكن واردة في ذلك السياق التاريخي  إطلاقا . ثم ما المشكلة في ادعاء المهدي أنه صاحب الكلمة الخاتمة ؟ وهل ادعاء شخص ما أنه صاحب الكلمة الخاتمة يلغي كونه مصلحا دينيا ؟
ينتقل بعدها النور حمد لفترة الحكم الاستعماري البريطاني ، ويقول إنه جاء بافق حداثي أعلى ، شكل العهد الوطني ارتدادا رعوياً عنه ، مرة أخرى أعيد التذكير بأسس السردية الجمهورية التي تناصب الافندية أو طلائع المتعلمين عداءا واحزابهم عداءا لا حدود له ، لدرجة إرجاء ركن  وأصل من أصول الإسلام الثاني الذين يدعون له ، هو الديمقراطية في سبيل محاربتهم . واكبر ما دليل على الردة الرعوية هو استئثار الشماليين بالمناصب العليا بعد السودنة دون الجنوبيين ثم الدعوة للدستور الإسلامي ، التي بلغت أوجها في الأعوام الأخيرة لنظام نميري مع قوانين سبتمبر التي أعدم بموجبها محمود محمد طه ، ثم الإنقاذ التي هي من ناحية أعلى تمظهر الرعوية ، ومن ناحية أخرى تمثل أيامها الأخيرة واستعانتها بالمليشيات القبلية هبة رعوية أخرى حسب النور حمد .
وبعد أن يعدد مظاهر الرعوية والتدين الرعوي ، يقتبس النور حمد من العراقي هادي العلوي " ان الجماهير في العراق ومثيلاتها لا يمكن أن تتحرك بفكر مترجم " ويستنتج من ذلك أن التحديث لا يمكن أن يتم دون المرور ب ( محطة ) الإصلاح الديني ، تماما كما حدث في أوروبا . بالنسبة لاقتباس العلوي على ما فيه من شعبوية ، فإن المطلوب ليس ما يحرك الجماهير ، بل العكس ، يتحدث أركون عن أن العقل غائب عن المجتمعات الإسلامية ومستبدل بخيال جماعي عاطفي ذي قدرة عالية على التعبئة والتحريك ، ومهمة الإصلاح الديني حسب أركون هي تحجيم هذا الخيال العاطفي .  لم استسغ هذه النزعة الشعبوية التي تتمظهر في دمغ الفتوحات المعرفية الكبرى التي انجزتها البشرية ب " فكر مترجم " ، واظن ان حماس النور حمد للفكر الجمهوري هو ما دفعه لهذا الموقف باعتبار ان الإصلاح الجمهوري غير مترجم ( هل هو فعلا ليس كذلك ؟ ) مع انني أتفق مع النور حمد في أهمية الإصلاح الديني ، إلا انني أرى ان الديمقراطية هي المفتاح للخروج من وهدتنا التاريخية ، وأن الاصلاح الديني نفسه يحتاج الديمقراطية ، وكفى بمحكمة الردة الأولى في العهد الديمقراطي لمحمود محمد طه ، ثم في نقض الحكم ضده في الديمقراطية الثالثة ، كفى بهذين على ما اقول دليلا ، والملاحظ أن النور قد تجاهل تماما دور الفرد أو الأفراد مثل كل أصحاب الحتميات التاريخية ، مقابل التركيز على دور العقل الرعوي . بالنسبة لي العامل الأساسي في ما آل إليه السودان - وهنا اتفق مع عبد الله علي إبراهيم - هو مجموعة أخطاء ارتكبتها النخب السياسية ، ومن ضمنهم محمود محمد طه بتأييده لديكتاتورية نميري مثلا ، ومن ضمنها فرض الهوية العربية والمحافظة على مظاهر التنمية الاستعمارية ، حل الحزب الشيوعي ، دعوى الدستور الإسلامي ، ..الخ كل هذه أخطاء سياسية تم ارتكابها وفرضها بقرارات سياسية ولا يمكن اعتبارها تمظهرا نقيا الروح السودانية الرعوية ، إلى إي مدى نستطيع تحميل كل السودانيين أو العقل السوداني مسؤولية هذه الأخطاء ، وأحيل هنا إلى مرافعة الخاتم عدلان التاريخية ضد مسعى عبد الله علي إبراهيم لتحميل الثقافة الإسلامية العربية في السودان وبالتالي حامليها مسؤولية التهميش والظلم الذي حاق بالسودانيبن غير العرب .
يميز الجمهوريون بين الحضارة والمدنية ، على أسس أخلاقية ، وفي مقالي النور حمد أحس برغبته بالزامنا بهذا التمييز ، فكأنما الحداثة بالنسبة له قيمة أخلاقية أو جمالية مرتبطة بأسلوب حياة وطرق سلوك محددة ، هنا يوجد خلط لا داعي له ، فالإنسان الحديث قد يكون أقل إيمانا ، أكثر قلقا ، لكن لا يمكن اعتباره ارفع اخلاقا من الإنسان قبل الحداثة ، والخلط هو قياس سلوك الناس في مجتمعات حديثة يسودها النظام ويحكمها القانون ويحترم فيها الفرد ، بسلوك الناس في مجتمع استطاعت فيه البنى الاجتماعية التقليدية امتصاص الدولة.  وتحجيم وتجيير القانون .
يضرب النور حمد بدول الخليج مثلا على امتلاك مقومات الحداثة المادية دون أن تكون دولا حديثة . بالنسبة لي ما ينقص هذه الدول لتكون حديثة هو الديمقراطية ، والديمقراطية هي ما يحتاجه السودان ليندرج في مسار الحداثة ، الديمقراطية هي التكنولوجيا السياسية اللازمة لخلق جو صالح لعرض المشكلات واقتراح الحلول لها ، الشعوب في الدول غير الحديثة تحتاج الديمقراطية ل"ترتقي" وتصبح مؤهلة ، وليس العكس .

السبت، 24 سبتمبر 2016

ثقافة وسياسة مجتمع الحرمان


اعمل في المساء بائعاً للكتب ، أنا  هو هذا  الشخص الواقف  قرب رف الكتب ، ينظر باهتمام لشابين يبتعدان شيئاً فشيئاً ، يحمل أحدهما كتاباً يجتهد في إخفاء عنوانة لئلا تشي به شفافية الكيس البلاستيكي . هما زبونان مواظبان ، ليس لهما سوى طلب وحيد " نريد روايات داعرة " هكذا باللفظ . هذه المرة بعتهما رواية لكاتب سوداني شاب غير موهوب ، لكنه شهير . أنا الآن انظر إليهما وهما يبتعدان ، وأفكر في قلبي : ما الذي يجعل شخصاً  معاصراً يشتري رواية فقط من أجل بضعة صفحات جنسية ، في زمن يستطيع فيه المرء مشاهدة فيلم بورنوغرافي طويل بضغطة زر ألأن المكتوب يتيح للخيال ما يصادره المرئي المسموع ؟ أم أنه انغلاق الذهن المولود من الحرمان ؟ وهؤلاء الكتاب المبتذلون ، هل يؤسسون أمجادهم الأدبية على الانتصار للخيال ، أم على إنتهاز الحرمان ؟

اعتدت قبل أن أصدر حكم قيمة على أي ظاهرة الاحظها في مجتمعنا اللا-حديث أن أتساءل عن وجودها في المجتمعات الحديثة ، وبالنسبة لقصة الشابين ، فالروايات الجنسية مثلاً لا تزال تحقق مبيعات عالية في المجتمعات الغربية ، وللأفلام والفيديوكليبات المثيرة ايضاً شعبيتها الكبيرة ، لا أستطيع أن أقول هناك في الغرب الحديث حيث لا حرمان ؛ فالحرمان هو الظل الذي يذهب حيث ذهب الإنسان ، نحن نزداد حرماناً كلما ازددنا وعياً وطموحاً ، وتوقنا الأبدي للإشباع المستحيل للرغبات التي تسبق القدرات ، هو ما يخلق الحنين إلى الفردوس—  بديل   رحم الأم — حيث كل الرغبات محققة وكل الإمكانات مُستغلة . لكني أستطيع أن أقول أن الحرمان في المجتمعات الحديثة محتمل ، خلافاً لحرماننا الذي لا يُطاق ، حرماننا المجاني ،  المضحك المبكي ، حرماننا الذي يجعل سوق الروايات التي يتطوع قراءها أنفسهم باختزالها في وصف " داعرة " في أوجه دائماً .

بعيني شاهدت تجار المخدرات يوزعونها ويتجولون بها ، بحذر نعم !  لكن لا يمكن مقارنة خوفهم بالهلع الذي اشاهده كل يوم في عيون حبيبين يسيران بأكف متشابكة في طرقات الخرطوم المعادية للحب وللحياة ، ذلك أن المجرم لا يخشى سوى الشرطة الكسولة والبدائية فيما يخص الجرائم الحقيقية ، لكن العاشق يخشى شرطة متحمسة جداً ضده ، يخشى أي عابر حتى الأطفال ، ويخشى تأثير تراكم التشوهات الناشئة عن الكبت في نفسه وفي نفس شريكه ، فثقافة الحرمان أنشأت في كل فرد في مجتمع الحرمان مخفراً للشرطة الدينية.
الفضيلة غائبة كلياً في الخرطوم ، ولكن حراسها حاضرون بأعداد هائلة ، حارس الفضيلة أو فارس الحرمان هذا هو حالة تخلقها ردة الفعل الأولى تجاه الحرمان ، وهو محاولة تعميمه بحيث يختفي بؤسه الخاص في البؤس الشامل ، فيستفزه جدا منظر قبلة بين عاشقين لأنها تذكره بخيبته الشخصية ، لكنه يطيق كل الحرمانات الأخرى ، من حرمانه من بيئة صحية ، إلى حرمانه من حقوقه السياسية والقانونية والاقتصادية . فقط لأن هذا حرمان عام ، فالمثل القائل " موت الكتيرة عيد " هو دستور مجتمع الحرمان.  فارس الحرمان ليس فقط ذلك المهووس الذي يعتبر أن واجبه أن يسهر على أن لا يتم تقبيل شفتين أو تطويق خصر في الجوار ، بل هو أيضاً من يشعر بالاستفزاز تجاه أي مظهر من مظاهر الابداع أو التفرد والاختلاف ؛ الذي يقمع النقاشات العامة  حول اي قضية لا قدرة له على الخوض فيها ، الذي يحس في نفسه سلطة مجهولة المصدر لتحديد ما  الصواب ، ما المهم وما الضروري ، حتى في مجالات الآخرين الشخصية .

وإذ أن تعميم الحرمان هو رد الفعل الأول ، فإنه أيضا يتضمن رد الفعل الثاني : تجاهل الحرمان ، فكما لا يذهب المحروم للطبيب حتى تدخل آلامه حيز الما لا يطاق ، فإنه أيضا يصبر على حرمانه أو يتحايل عليه حتى يدخل أيضا حيز الما لا يطاق . واحدة من مآسينا ان مجتمعاتنا تعلي من شأن " قيمتين " متضادتين ; العفة والفحولة . هناك محاولات كثيرة لصيغ توليف بين الإثنين ، مثل كون العفة للنساء والفحولة للرجال ! وهذا ممتنع منطقياً . من العفة ينتج الإرتباك ، ومن الفحولة تنتج الوقاحة . وبين الوقاحة والارتباك تتأرجح كل محاولة لإشباع اي حرمان . يتم تنشئة الشاب على اعتبار النساء عورات وشرف وحريم والعلاقة معهم محروسة بالفصل الصارم وبالعيب والحرام واللاقانوني ، ثم في مرحلة محددة ومتأخرة جداً يجد نفسه مطالباً فجأة بالتودد إليهن واستمالتهن ، هذا يشبه الوضع الذي يصفه بيت عنترة : " كيف التقدم والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم " . وتأتي محاولات التودد بائسة ومثيرة للشفقة ويائسة أصلاً ، كثير ما ألاحظ كيف ان شبابا ورجالاً مستنيرين عاجزون عن ابتدار محادثة عادية مع امرأة . أو يتوددون بصورة مثيرة للشفقة وللضحك أحيانا . حتى من يمتازون بالجرأة والمهارة يمكن ملاحظة نوع من الارتباك لديهم ، الارتباك الناتج عن محاولة إخفاء الارتباك ، الذي يخلق الوقاحة المنفرة التي هي حيلة لكبت الارتباك  . فحتى " صرخات اللذة  عند عواهرنا عذراء " كما قال شاعرنا .

مجتمع الحرمان يطبع كل شئ بطابعه ، حتى النظريات السياسية ، فمثلاً تحولت الماركسية منذ وقت مبكر عندنا لمجرد صيغة سفسطائية للتعبير عن كراهية الأغنياء وتمجيد الفقر والحرمان ، وتأثيم أي مظهر من مظاهر الفرح أو الاستمتاع بالعالم ، وتطويب الحزن والهم والغم . في مجتمعات كهذه يستحيل تصور وجود الحب ، ليس لدينا اغاني حب ، فقط صرخات حرمان بائسة ، وانظر مثلاً للأغاني المسماة اغاني الحقيبة كنموذج . نحن في الحقيقة مجتمع الكراهية ، كراهية الذات والآخر . تشتعل الحرب الأهلية لا لإنهاء الحرمان بل للحصول على نفس درجة حرمان الآخرين ، ويؤيد الآخرون الظلم والتهميش لنفس الأسباب التي ينزعج لأجلها المهووس من قبلة العاشقين ، لا ليعيش هو  ، بل لأن منع الآخرين من الحياة يشعره بحياته .

إن مواد القانون الجنائي اللاعقلانية التي نسميها اعلامياً بقانون النظام العام ، هي  بلورة سياسية ماكرة لرغبة السودانيين العميقة  في منع بعضهم بعضاً من الحياة ، في تعميم حرمانهم وتحويله إلى بطولة . فمجتمع الحرمان هو دائماً مجتمع البطولة ، حيث الانتظار الأبدي للبطل المُخلص وللخلاص ، هناك صيغ بطولية للتعبير عن أي شئ حتى الجهل ، والكسل و العجز . ففارس الحرمان ماهر جداً في إثارة الهلع نسبة لسلطته المطلقة المجهولة المصدر ، فارس الحرمان يقمع الحياة  ويثير الرعب  بالدين وإن لم يكن هو متديناً ، ويزاود بالأخلاق والقيم ، ويحول بالتالي حرمانه فورا إلى بطولة ، وفارس الحرمان يقمع النقاشات العمومية بأسلحة  مرعبة أخرى مثل وصفها بالانصرافية وتعطيل الثورة ومخالفة الأولويات الوطنية والنضالية التي تسول له سلطته الغريبة أنه هو وحده من يعرفها .فيتحول الجهل والتسطيح والديماغوغية إلى بطولة ، وينزوي الفكر النقدي والإبداع إلى الزاوية خجولا منهزما بعد أن ارهبته سلطة المفاخرة بالعاهات . نحن نعيش فعلاً في مجتمع أصبح فيه الاهتمام بالفكر والثقافة والعلم والفنون مدعاة للسخرية وسبة وتهمة بشعة  يجد بعض المهتمين بها أنفسهم أحيانا ملزمين بنفيها . بل إن المأساة بلغت درجة أن من الممكن أن ينهي اي جاهل نقاشا خلاقاً حول قضية نظرية بأن يقاطع بصوت عالي وقح ويطلب من المتناقشين ترك تضييع الوقت والتحدث بدلاً عن ذلك عن ارتفاع أسعار الحمير في سوق ود الحداد مثلاً .

كيف نُنه هذا الوضع ؟ لا أعرف . سأظل افكر ، فكروا معي ، التفكير ليس عيباً . 

الجمعة، 23 سبتمبر 2016

عقلنة الشفقة


طيلة النصف الأخير من سبتمبر من هذا العام 2016 ، ظل الرأي العام السوداني منشغلا بقضية تسجيل وفيات بالإسهال في ولاية النيل الأزرق ، ثم كسلا ، مع أنباء عن وفيات في الخرطوم ، مع غياب أي أرقام أو بيانات حكومية . بعض مؤيدي النظام الحاكم سارعوا إلى نفي وجود حالة وبائية وإتهام المعارضة بالتهويل وحتى بافتعال الأزمة لإحراج النظام . وبرزت للمرة الثانية قضية علاقة العمل الانساني بالسياسي .
قبل هذا الحدث بأيام قليلة قرأت عدة تعليقات تقلل من أهمية أداء  شعيرة الحج الإسلامية بحجة حوجة الفقراء المسلمين للأموال ، ثم تكرر نفس الأحتجاج  أيام عيد الأضحى  . هذا التوالي السريع للأحداث جعلني أفكر  في إمكانية وجود تضامن إنساني خام ، غير متأثر بالسياسة أو الايدولوجيا .ثم عن جدوى ذلك إن وجد ، في الأخير ليس من المنطق محاكمة الدوافع والنوايا بافتراضات مؤسسة هي نفسها على ايدولوجيا مضادة . فإن عدنا لقصة الوباء السوداني نجد أن السياسي هو أول ما تبادر لاذهان المنافحين عن النظام ، ثم اتهموا الآخرين بالانطلاق من أجندات سياسية وهذه من غرائبيات السياسة السودانية في هذا العهد .
قبيل الإستقلال السوداني وقع أول انتهاك كبير ضد مواطنين سودانيين بواسطة أول حكومة سودانية ، هو مذبحة عنبر جودة الشهيرة . وقد سجل مواطنو مدينة كوستي مأثرة إنسانية غراء بتضامنهم ومساندتهم للضحايا ، مع مواقف مشرفة لمواطنين ومثقفين من مختلف أنحاء السودان ، في المقابل كانت هناك أصوات غير خافتة تتحدث عن الأصول الأجنبية لبعض الضحايا وكأنما هذا - بإفتراض صحته - يلغي المأساة أو يلطف بشاعتها . كان لليسار الاشتراكي القدح المعلى في تأجيج الإحتجاج وتنظيمه ، وقد تم تخليد المذبحة في عملين أدبيين شهيرين الأول قصيدة للشاعر صلاح أحمد إبراهيم يستهلها ب " لو كانوا حزمة جرجير يعد كي يباع لخدم الافرنج في المدينة الكبيرة " والثاني هو " تصريح لمزارع من جودة " لعبد الله على إبراهيم ، دون أن أخالف ما قلته عن لا أهمية الدافع والنية ، فإنني كثيرا ما أفكر في صلاح أحمد إبراهيم عندما سجل هذا الموقف النبيل ، هل كان ما يهمه فقط معاناة أولئك المناكيد ؟ أم أن ايدولوجياه الشهيرة والكفاح ضد النظام "الرجعي" هي همه . ومن معرفتي به ، ما أن أرجح خيارا حتى يدلي الآخر بحجته ، ثم جمعت المتناقضين في توليفة أن الأمرين يصعب الفصل بينهما ويتداخلان لدرجة التماهي أحيانا . أما الآخر صاحب " تصريح لمزارع من جودة " فاعجب عندما أرى المسافة الشاسعة بين زمجرته إبان محذرة جودة ثم صمته أو تلجلجه مع المجاذر اليومية الراهنة في حزام الحرب الأهلية ، فاقطع الشك باليقين أن  الايدولوجيا هي ما الان قلبه مع حادثة جودة ، وهي ما تجعله كالحجارة وأشد قسوة الآن .
الأمطار الغزيرة والسيول التي شهدها السودان في العام 2013 احدثت أضراراً بالغة في مناطق شتى ، وافقدت الكثيرين حياتهم ، منازلهم ، ممتلكاتهم ، كان الوضع في كثير من المناطق كارثياً بالفعل ، فتنادي عدد من الشباب لتكوين مبادرة نفير التي ساهمت بشكل مقدر في أعمال الإغاثة والحصر ، في تلك الأيام كنت من أبطال معسكر المعارضين لهذا العمل الطوعي بحجج أضحك على نفسي عندما أتذكرها الآن ، مثل أن هذا واجب الحكومة ، ويعطل تراكم الوعي بالظلم اللازم لإندلاع الثورة ، ويطيل عمر النظام ..الخ، كنت متأثرا بنزعة يساروية ترى في فكرة المجتمع المدني والمنظمات الطوعية الشر الخالص .هذا الوضع أشبه بما يسمى بالاغتراب ، أو الاستلاب السياسي أو الايدولوجي الذي لا يرى في البشر ولا في معاناتهم.   سوى وقود أو أدوات لتحقيق يوتوبيا متوهمة .
البيروقراطية والمأسسة من أكبر المظاهر التي صاحبت الحداثة ، وهي بالأساس نزع للطابع الشخصي عن الإدارة وإستبداله بنظام قائم على الكفاءة والتراتبية وحكم اللوائح المعقلنة لتحقيق الأهداف المحددة بالشكل الأمثل . في هذا الصدد اعتبر أن منظمات المجتمع المدني  والمؤسسات غير الحكومية هي مأسسة للشفقة وعقلنة لها ، اي نزع للطابع الشخصي عنها ، بدلاً من الشفقة والتعاطف المحكوم بالعرق ، والدين والجغرافيا والايدولوجيا ، يتحول إلى تعاطف محكوم ومنظم بقوانين ومقسم وفق. معايير متفق عليها إلى درجات من إبداء القلق والمناشدات وحتى التدخل العسكري ببنود مجلس الأمن .
فإذا كانت المنظمات غير الحكومية مأسسة للشفقة ، فإن الحزب السياسي المعارض هو ماسسة التذمر ، لتنميته وتحويله لفعل اجتماعي مؤثر ، والمفارقة اننا نعارض المنظمات لأنها تتعامل مع المشكلات الإنسانية دون التطرق لجذورها أو الحلول النهائية لها ، ثم في نفس الوقت ندين الأحزاب لأنها تتعرض للأزمات وفق تصوراتها الخاصة لجذورها في إطارها السياسي وتطرح مع كل أزمة مقترحاتها للحلول ، فنعتبر المنظمات متواطئة ، والأحزاب إتهازية مع أن الاثنين يقومان بمهمتهما التي قاما لأجلها . فعندما يبتدئ سيناتور أميركي معارض مساءلته لمسؤول حكومي بخصوص تعامل الحكومة مع كارثة طبيعية مثلا ب " الشعب الأمريكي يريد أن يعرف .." لا يتم إعتبار هذه " متاجرة " أو انتهازية ، لكن عندنا يكون الناشط السياسي هو نفسه الناشط الطوعي ، وتختلط مهمة الحزب بمهمة الجمعية الطوعية ، فتشتبه علينا الأمور .
أعود مرة أخرى إلى قصة النيل الأزرق ومخاوف الكوليرا ، فاتساءل : هل هذا التعاطف الكبير مع " انسان النيل الأزرق " نتاج تقدم تدريجي نحو ضمير سوداني أو حس عاطفي مشترك ، ساهمت وسائل التواصل الحديثة في تعزيزه ، وكان غياب هذه المنابر الإعلامية المستقلة مؤثراً في ضعف التعاطف مع بدايات أزمة دارفور وقبلها الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق ؟ أم أن طبيعة الأزمة وطبيعة مسببها كونه بكتيريا لا تفرق بين قبيلة وأخرى وقد تصل إلى أبعد الأماكن ، وليس مليشيا متوحشة تعرف من تقتل هو سبب التعاطف ؟ هل هذا التعاطف رفض لموت الإنسان أم خوف من توسع دائرة الموت ، وقد قرأت مسبقاً تعليقاً على الحوادث يتحدث عن كون أبناء المناطق المتضررة " سيعودون " بعد إجازة عيد الأضحى . لكن مع هذا الاحتمال القاتم تظل نسبة التضامن الحالية مؤشر إيجابي يستحق الإحتفاء به بصرف النظر عن النيات والدوافع .
ختاماً : كان يهوذا الاسخريوطي خائن المسيح مزاوداً ، احتج على شراء عطر بحجة موجة الفقراء لثمنه ، فقال له المسيح " الفقراء معكم في كل حين ، أما أنا فلست معكم في كل حين " ، أحيانا أحس أننا بحاجة للمسيح ليقول ، لمن يعترضون على تنظيم مسابقة رياضية ، أو علي الذهاب للحج ، أو طلي سقف الفاتيكان بالذهب ، أو ذبح الخراف في عيد الأضحى ، وأحيانا أحس أنه كما أن يهوذا لم يكن همه الفقراء فعلا ، أيضا ليس الفقراء هم المحتجين ، بل همهم تسجيل نصر ديماغوغي لايدولوجياتهم المحددة ، وهذا هو الاغتراب بعينه .