السبت، 24 سبتمبر 2016

ثقافة وسياسة مجتمع الحرمان


اعمل في المساء بائعاً للكتب ، أنا  هو هذا  الشخص الواقف  قرب رف الكتب ، ينظر باهتمام لشابين يبتعدان شيئاً فشيئاً ، يحمل أحدهما كتاباً يجتهد في إخفاء عنوانة لئلا تشي به شفافية الكيس البلاستيكي . هما زبونان مواظبان ، ليس لهما سوى طلب وحيد " نريد روايات داعرة " هكذا باللفظ . هذه المرة بعتهما رواية لكاتب سوداني شاب غير موهوب ، لكنه شهير . أنا الآن انظر إليهما وهما يبتعدان ، وأفكر في قلبي : ما الذي يجعل شخصاً  معاصراً يشتري رواية فقط من أجل بضعة صفحات جنسية ، في زمن يستطيع فيه المرء مشاهدة فيلم بورنوغرافي طويل بضغطة زر ألأن المكتوب يتيح للخيال ما يصادره المرئي المسموع ؟ أم أنه انغلاق الذهن المولود من الحرمان ؟ وهؤلاء الكتاب المبتذلون ، هل يؤسسون أمجادهم الأدبية على الانتصار للخيال ، أم على إنتهاز الحرمان ؟

اعتدت قبل أن أصدر حكم قيمة على أي ظاهرة الاحظها في مجتمعنا اللا-حديث أن أتساءل عن وجودها في المجتمعات الحديثة ، وبالنسبة لقصة الشابين ، فالروايات الجنسية مثلاً لا تزال تحقق مبيعات عالية في المجتمعات الغربية ، وللأفلام والفيديوكليبات المثيرة ايضاً شعبيتها الكبيرة ، لا أستطيع أن أقول هناك في الغرب الحديث حيث لا حرمان ؛ فالحرمان هو الظل الذي يذهب حيث ذهب الإنسان ، نحن نزداد حرماناً كلما ازددنا وعياً وطموحاً ، وتوقنا الأبدي للإشباع المستحيل للرغبات التي تسبق القدرات ، هو ما يخلق الحنين إلى الفردوس—  بديل   رحم الأم — حيث كل الرغبات محققة وكل الإمكانات مُستغلة . لكني أستطيع أن أقول أن الحرمان في المجتمعات الحديثة محتمل ، خلافاً لحرماننا الذي لا يُطاق ، حرماننا المجاني ،  المضحك المبكي ، حرماننا الذي يجعل سوق الروايات التي يتطوع قراءها أنفسهم باختزالها في وصف " داعرة " في أوجه دائماً .

بعيني شاهدت تجار المخدرات يوزعونها ويتجولون بها ، بحذر نعم !  لكن لا يمكن مقارنة خوفهم بالهلع الذي اشاهده كل يوم في عيون حبيبين يسيران بأكف متشابكة في طرقات الخرطوم المعادية للحب وللحياة ، ذلك أن المجرم لا يخشى سوى الشرطة الكسولة والبدائية فيما يخص الجرائم الحقيقية ، لكن العاشق يخشى شرطة متحمسة جداً ضده ، يخشى أي عابر حتى الأطفال ، ويخشى تأثير تراكم التشوهات الناشئة عن الكبت في نفسه وفي نفس شريكه ، فثقافة الحرمان أنشأت في كل فرد في مجتمع الحرمان مخفراً للشرطة الدينية.
الفضيلة غائبة كلياً في الخرطوم ، ولكن حراسها حاضرون بأعداد هائلة ، حارس الفضيلة أو فارس الحرمان هذا هو حالة تخلقها ردة الفعل الأولى تجاه الحرمان ، وهو محاولة تعميمه بحيث يختفي بؤسه الخاص في البؤس الشامل ، فيستفزه جدا منظر قبلة بين عاشقين لأنها تذكره بخيبته الشخصية ، لكنه يطيق كل الحرمانات الأخرى ، من حرمانه من بيئة صحية ، إلى حرمانه من حقوقه السياسية والقانونية والاقتصادية . فقط لأن هذا حرمان عام ، فالمثل القائل " موت الكتيرة عيد " هو دستور مجتمع الحرمان.  فارس الحرمان ليس فقط ذلك المهووس الذي يعتبر أن واجبه أن يسهر على أن لا يتم تقبيل شفتين أو تطويق خصر في الجوار ، بل هو أيضاً من يشعر بالاستفزاز تجاه أي مظهر من مظاهر الابداع أو التفرد والاختلاف ؛ الذي يقمع النقاشات العامة  حول اي قضية لا قدرة له على الخوض فيها ، الذي يحس في نفسه سلطة مجهولة المصدر لتحديد ما  الصواب ، ما المهم وما الضروري ، حتى في مجالات الآخرين الشخصية .

وإذ أن تعميم الحرمان هو رد الفعل الأول ، فإنه أيضا يتضمن رد الفعل الثاني : تجاهل الحرمان ، فكما لا يذهب المحروم للطبيب حتى تدخل آلامه حيز الما لا يطاق ، فإنه أيضا يصبر على حرمانه أو يتحايل عليه حتى يدخل أيضا حيز الما لا يطاق . واحدة من مآسينا ان مجتمعاتنا تعلي من شأن " قيمتين " متضادتين ; العفة والفحولة . هناك محاولات كثيرة لصيغ توليف بين الإثنين ، مثل كون العفة للنساء والفحولة للرجال ! وهذا ممتنع منطقياً . من العفة ينتج الإرتباك ، ومن الفحولة تنتج الوقاحة . وبين الوقاحة والارتباك تتأرجح كل محاولة لإشباع اي حرمان . يتم تنشئة الشاب على اعتبار النساء عورات وشرف وحريم والعلاقة معهم محروسة بالفصل الصارم وبالعيب والحرام واللاقانوني ، ثم في مرحلة محددة ومتأخرة جداً يجد نفسه مطالباً فجأة بالتودد إليهن واستمالتهن ، هذا يشبه الوضع الذي يصفه بيت عنترة : " كيف التقدم والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم " . وتأتي محاولات التودد بائسة ومثيرة للشفقة ويائسة أصلاً ، كثير ما ألاحظ كيف ان شبابا ورجالاً مستنيرين عاجزون عن ابتدار محادثة عادية مع امرأة . أو يتوددون بصورة مثيرة للشفقة وللضحك أحيانا . حتى من يمتازون بالجرأة والمهارة يمكن ملاحظة نوع من الارتباك لديهم ، الارتباك الناتج عن محاولة إخفاء الارتباك ، الذي يخلق الوقاحة المنفرة التي هي حيلة لكبت الارتباك  . فحتى " صرخات اللذة  عند عواهرنا عذراء " كما قال شاعرنا .

مجتمع الحرمان يطبع كل شئ بطابعه ، حتى النظريات السياسية ، فمثلاً تحولت الماركسية منذ وقت مبكر عندنا لمجرد صيغة سفسطائية للتعبير عن كراهية الأغنياء وتمجيد الفقر والحرمان ، وتأثيم أي مظهر من مظاهر الفرح أو الاستمتاع بالعالم ، وتطويب الحزن والهم والغم . في مجتمعات كهذه يستحيل تصور وجود الحب ، ليس لدينا اغاني حب ، فقط صرخات حرمان بائسة ، وانظر مثلاً للأغاني المسماة اغاني الحقيبة كنموذج . نحن في الحقيقة مجتمع الكراهية ، كراهية الذات والآخر . تشتعل الحرب الأهلية لا لإنهاء الحرمان بل للحصول على نفس درجة حرمان الآخرين ، ويؤيد الآخرون الظلم والتهميش لنفس الأسباب التي ينزعج لأجلها المهووس من قبلة العاشقين ، لا ليعيش هو  ، بل لأن منع الآخرين من الحياة يشعره بحياته .

إن مواد القانون الجنائي اللاعقلانية التي نسميها اعلامياً بقانون النظام العام ، هي  بلورة سياسية ماكرة لرغبة السودانيين العميقة  في منع بعضهم بعضاً من الحياة ، في تعميم حرمانهم وتحويله إلى بطولة . فمجتمع الحرمان هو دائماً مجتمع البطولة ، حيث الانتظار الأبدي للبطل المُخلص وللخلاص ، هناك صيغ بطولية للتعبير عن أي شئ حتى الجهل ، والكسل و العجز . ففارس الحرمان ماهر جداً في إثارة الهلع نسبة لسلطته المطلقة المجهولة المصدر ، فارس الحرمان يقمع الحياة  ويثير الرعب  بالدين وإن لم يكن هو متديناً ، ويزاود بالأخلاق والقيم ، ويحول بالتالي حرمانه فورا إلى بطولة ، وفارس الحرمان يقمع النقاشات العمومية بأسلحة  مرعبة أخرى مثل وصفها بالانصرافية وتعطيل الثورة ومخالفة الأولويات الوطنية والنضالية التي تسول له سلطته الغريبة أنه هو وحده من يعرفها .فيتحول الجهل والتسطيح والديماغوغية إلى بطولة ، وينزوي الفكر النقدي والإبداع إلى الزاوية خجولا منهزما بعد أن ارهبته سلطة المفاخرة بالعاهات . نحن نعيش فعلاً في مجتمع أصبح فيه الاهتمام بالفكر والثقافة والعلم والفنون مدعاة للسخرية وسبة وتهمة بشعة  يجد بعض المهتمين بها أنفسهم أحيانا ملزمين بنفيها . بل إن المأساة بلغت درجة أن من الممكن أن ينهي اي جاهل نقاشا خلاقاً حول قضية نظرية بأن يقاطع بصوت عالي وقح ويطلب من المتناقشين ترك تضييع الوقت والتحدث بدلاً عن ذلك عن ارتفاع أسعار الحمير في سوق ود الحداد مثلاً .

كيف نُنه هذا الوضع ؟ لا أعرف . سأظل افكر ، فكروا معي ، التفكير ليس عيباً . 

هناك 6 تعليقات:

  1. كتابه طاعمه و تلامس الوجدان بقدر ملامستها للواقع، هي في نفسها أحد أسلحة إنهاء الوضع عندما يناقش العارفين مشاكلنا الواقعية فعلا لا نظريات الآخرين عن ما نظنه مشاكلنا

    ردحذف
  2. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  3. شاهدت تجار المخدرات يوزعونها ويتجولون بها ، بحذر نعم ! لكن لا يمكن مقارنة خوفهم بالهلع الذي اشاهده كل يوم في عيون حبيبين يسيران بأكف متشابكة في طرقات الخرطوم المعادية للحب وللحياة ، ذلك أن المجرم لا يخشى سوى الشرطة الكسولة والبدائية فيما يخص الجرائم الحقيقية ، لكن العاشق يخشى شرطة متحمسة جداً ضده ، يخشى أي عابر حتى الأطفال ، ويخشى تأثير تراكم التشوهات الناشئة عن الكبت في نفسه وفي نفس شريكه ، فثقافة الحرمان أنشأت في كل فرد في مجتمع الحرمان مخفراً للشرطة الدينية

    ردحذف
  4. أمادو، لا فض فوك ولا عدمناك.

    ردحذف
  5. أمادو، لا فض فوك ولا عدمناك.

    ردحذف
  6. امادو يا ضارب النيران الهادئه

    ردحذف