الأحد، 2 أكتوبر 2016

العقل الرعوي أم الفساد السياسي؟

هذا تعليق على مقالين للنور حمد الأول هو مقال "  التغيير وقيد العقل الرعوي " المنشور بموقع الراكوبة ، ومقال " وهم الصعود للحداثة. بغير رافعة " المنشور بالعدد الثالث من مجلة الحداثة السودانية .
أستطاع النور حمد ببراعة أن يعيد  قضية التحديث
في السودان  للواجهة مرة أخرى ، بعد عاصفة التعليقات على مقاله " التغيير وقيد العقل الرعوي " ، وأود التنبيه إلى أن نشر حمد لهذا المقال جاء متزامنا أو مقاربا لنشر مقال له في العدد الثالث من مجلة الحداثة السودانية أسماه " وهم الصعود للحداثة بغير رافعة " وقراءة المقالين معاً ، تعطي إضاءة أفضل لفكرة حمد .
نقطة قوة مقال النور حمد هي نفسها نقطة الضعف التي هوجم من خلالها ؛ اي ميوعة مفهوم " العقل الرعوي " وعدم انضباطه كما أشار لذلك عبد الله علي إبراهيم ، في تعقيبه على مقال النور حمد المعنون " النور حمد : نطاح الحداثة والرعوية " والبروفيسور عبد الله علي إبراهيم أكاديمي ضليع واعتراضه مؤسس على احترام التقاليد الأكاديمية ، لكن الإيجابي في لا أكاديمية طرح النور حمد هو أن الانضباط الأكاديمي المهووس بالكمال المرعوب من الخطأ ، يجعل الفكر بارداًً وربما مملاً ، وما كان لمقال النور حمد ان يثير كل هذا النقاش لو جاء أكاديمياً متوسلاً للكمال.  ولا شك أن النور من صفوة الانتلجنسيا السودانيين ولا يُعقل الإعتقاد ان هذه المآخذ قد تفوت عليه ، ولكن وهنا ما يعجبني في طرحه أنه غامر بكل الرصانة الأكاديمية مقابل إعادة إنعاش النقاشات العامة وتلقيحها لتثمر ، هذه هي الفضيلة النتشوية ، إذ قدم النور نفسه كمثقف مشغول ومتورط للنخاع في ازمتنا الوطنية وليس مجرد مراقب خارجي بارد . أظن أن النور اكتسب هذه الفضيلة من تتلمذه النجيب على محمود محمد طه ، واستمد منه هذه الروح المغامرة الشجاعة ، إذ أن جوهر الفكرة الجمهورية افتراض يصعب إثباته لا  بالطرق الأكاديمية ولا بالطرق الفقهية التقليدية . وفي أوقات الانسداد الشامل فإن مثل هذه الطريقة فعالة في إعادة طرح الأسئلة ، كما تحدث كارل بوبر عن الانطلاق من افتراض بدلا عن ملاحظة ، في مشروعه لنقد وتطوير المنهج العلمي .
فكرة مقالي النور حمد - كما فهمتها -  هي التقدم التحديثي ثم التراجع إلى أوضاع قبل حديثة بسبب تأثير " العقل الرعوي " الذي يتخلل ثغرات الحداثة ويكمن تحت قشرتها في انتظار ضعف مناعتها . وهذه الفكرة ليست غريبة على الفضاء الثقافي السوداني ، وقد سبق وتحدث حيدر إبراهيم علي وعبد العزيز حسين الصاوي عن ما أسموه " الارتداد التحديثي " و " الانكفاء الحداثي " ، وقد ذهب كل منهم مذهبه في تشخيص أصلها ، أما النور حمد فقد ارجعها ل " العقل الرعوي " ذي الطبيعة الهيغلية ، بما هو جوهري لا يتأثر بالتغييرات الموضوعية ، وهذه فكرة لا أتفق إطلاقا معها . أحس أن  فكرة النور حمد - مرة أخرى كما فهمتها -  تطبيق ل"فلسفة تاريخ " مع أنه استهل مقالة " التغيير وقيد العقل الرعوي " بإقتباس من جون غراي  ضد فكرة التقدم في التاريخ الهيغلية الماركسية واعتبرها من خرافات الحداثة ، وأنا اشتبه ان هذا يجافي فكرة النور حمد ويناقضها ، فمشكلة " العقل الرعوي " أنه يقطع طريق التقدم (لكن نحو ماذا ؟ ) ، إذا اقتبسنا فكرة كانط عن المفاهيم الثلاثة المنطبعة  السابقة على الوعي ؛ الزمان ، المكان والسببية ، فأنا أزعم أن فكرة التقدم أيضا أصبحت منطبعة في أذهاننا لدرجة كبيرة ، حتى ونحن ننتقدها .
في نفس العدد الثالث من مجلة الحداثة الذي اثراه النور حمد بنشر مقالة "وهم الصعود للحداثة بغير رافعة " نُشرت حوارية شاركت فيها مع عدد من الشباب    ، كان موضوعها مفهوم الحداثة من وجهة نظر جيل جديد  ، تطرق فيها المشاركون أيضاً لقضية الارتداد الحداثي ، كنت حريصا في مداخلتي ان لا أقع تحت إغراء تكوين نظرية تاريخ سواء خلدونية أو هيغلية ، أنا احس ان تواتر ظاهرة محددة في التاريخ ظل يغري المنظرين بالسعي لإيجاد خيط سحري ينظم كل هذه الفوضى ، وأن العقل الرعوي هو خيط النور حمد الناظم لتناثر هباتنا وكبواتنا . فيما يتعلق بالتاريخ فإن السقوط المدوي لسرديات التقدم الكبرى اورث الأجيال اللاحقة من المنظرين حذرا من تكرار ذات التجارب ، وسادت النظرة التي تنكر خطية التاريخ وغائيته مثل نظرة التي استهل باقتباسها النور حمد مقاله.  بالنسبة لي أجدني أميل إلى قول سيوران " لا يمكننا تعلم شئ من التاريخ فهو يحتوي على كل شئ " وتشخيص مؤرخ الأفكار البولندي ليشك كولاكفسكي للغرض من دراسة التاريخ بأنه أن  نعرف من نحن لا أن نعرف كيف يسير العالم وإلى أين .
بالعودة إلى نظرية النور حمد ، فسابدأ من الفترة التركية ، إذ أن المعلومات عن فترة الممالك المسيحية أقل من أن تصلح لاستنتاج شئ منها ، يصف النور التركية بأنها نفحة حداثية مست الدولة لا الأفراد ، أطاحت بها هبة رعوية هي المهدية . هنا أود أن أشير إلى تعجبي من الطريقة التي يستعمل بها حمد كلمة عقل ففي مقال مجلة الحداثة يقول " نجح الحكم الخديوي في استتباع العقل السوداني للعقل الخديوي المصري " حسبما فهمت فإن المفترض وجود عقلين بينهما صراع أبدى في اي مكان من يوغسلافيا السابقة حتى أميركا دونالد ترمب ، هما العقل الرعوي والعقل الحديث ، إلا أن هذا الجزء يشي بوجود تفاوتات داخل الرعوية بين رعوية الخديوي ورعوية السودانيين . أية استتباع العقل الخديوي للعقل السوداني حسب حمد هي اعتناق السودانيين لاطروحات القومية العربية والاستعراب وتنكرهم للجذور الأفريقية الكوشية وهذا يعود للبذرة التي القتها الخديوية . بالنسبة لي هنا الخلاف خلاف وقائع تاريخية فحركة الاستعراب وانتحال الأنساب العربية في السودان سابقة للغزو التركي حتى أن الفونج أنفسهم وحتى بعض سلاطين الفور قد انتحلوا انسابا عربية . بل إن التصوف الإسلامي الذي تحسر النور حمد عليه في جزء آخر من مقاله لحمته وسداه انتحال نسب عربي قرشي هاشمي . يقول النور حمد ان الخديوية جاءت بالفقه المدرسي و قضت على " مواريث التصوف السوداني المنفتحة على التحديث والتطور " والحقته بمنظومة الفقة المنغلقة التابعة لها ، الداعمة لاستبدادها ، وكل هذه الأفكار خلافية وفيها نظر . لا يسعني هنا إلا أن أذكر بخلفية النور حمد الجمهورية وخلاف مؤسسها مع مدارس الفقه التقليدية ومع مصر .
ينتقل النور الى المهدية ويقول أنها " خرجت من عباءة التصوف " ضد بطش واستبداد التركية ، وأنها بانتصارها على التركية. كانت ارتدادا عن المحدود الذي كسبته البلاد من قيم الحداثة . ثم ينكر كون المهدي مصلحا حقيقاً ؛ لأنه ادعى المهدية و" زعم أنه صاحب الكلمة الخاتمة " ثم يزعم أن " السودانيين " كرهوا المهدية أكثر مما كرهوا التركية  وقد وضعتها بين الأقواس حتى لا تختلط دلالة اللفظ في ذلك السياق مع المعنى الحالي ، الزعم ان السودانيين - كلهم -  كرهوا المهدية أكثر من التركية أيضا زعم مرسل رغبوي يكذبه واقع الشعبية الكبيرة التي يحظى بها حزب الأمة القومي لدرجة الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان في آخر انتخابات ديمقراطية في السودان . لكن بعض أصحاب الإمتيازات في العهد التركي عارضوا المهدية نعم واستعانوا ضدها بالاجنبي ، قال النور ان هذا " ضربة البداية في التنصل من الثوابت الوطنية " مع تحفظي على إدخال مفهوم وطنية في ذلك السياق واعتباري إياه مغالطة تاريخية ؛ ففكرة الوطن والانتماء الوطني لم تكن واردة في ذلك السياق التاريخي  إطلاقا . ثم ما المشكلة في ادعاء المهدي أنه صاحب الكلمة الخاتمة ؟ وهل ادعاء شخص ما أنه صاحب الكلمة الخاتمة يلغي كونه مصلحا دينيا ؟
ينتقل بعدها النور حمد لفترة الحكم الاستعماري البريطاني ، ويقول إنه جاء بافق حداثي أعلى ، شكل العهد الوطني ارتدادا رعوياً عنه ، مرة أخرى أعيد التذكير بأسس السردية الجمهورية التي تناصب الافندية أو طلائع المتعلمين عداءا واحزابهم عداءا لا حدود له ، لدرجة إرجاء ركن  وأصل من أصول الإسلام الثاني الذين يدعون له ، هو الديمقراطية في سبيل محاربتهم . واكبر ما دليل على الردة الرعوية هو استئثار الشماليين بالمناصب العليا بعد السودنة دون الجنوبيين ثم الدعوة للدستور الإسلامي ، التي بلغت أوجها في الأعوام الأخيرة لنظام نميري مع قوانين سبتمبر التي أعدم بموجبها محمود محمد طه ، ثم الإنقاذ التي هي من ناحية أعلى تمظهر الرعوية ، ومن ناحية أخرى تمثل أيامها الأخيرة واستعانتها بالمليشيات القبلية هبة رعوية أخرى حسب النور حمد .
وبعد أن يعدد مظاهر الرعوية والتدين الرعوي ، يقتبس النور حمد من العراقي هادي العلوي " ان الجماهير في العراق ومثيلاتها لا يمكن أن تتحرك بفكر مترجم " ويستنتج من ذلك أن التحديث لا يمكن أن يتم دون المرور ب ( محطة ) الإصلاح الديني ، تماما كما حدث في أوروبا . بالنسبة لاقتباس العلوي على ما فيه من شعبوية ، فإن المطلوب ليس ما يحرك الجماهير ، بل العكس ، يتحدث أركون عن أن العقل غائب عن المجتمعات الإسلامية ومستبدل بخيال جماعي عاطفي ذي قدرة عالية على التعبئة والتحريك ، ومهمة الإصلاح الديني حسب أركون هي تحجيم هذا الخيال العاطفي .  لم استسغ هذه النزعة الشعبوية التي تتمظهر في دمغ الفتوحات المعرفية الكبرى التي انجزتها البشرية ب " فكر مترجم " ، واظن ان حماس النور حمد للفكر الجمهوري هو ما دفعه لهذا الموقف باعتبار ان الإصلاح الجمهوري غير مترجم ( هل هو فعلا ليس كذلك ؟ ) مع انني أتفق مع النور حمد في أهمية الإصلاح الديني ، إلا انني أرى ان الديمقراطية هي المفتاح للخروج من وهدتنا التاريخية ، وأن الاصلاح الديني نفسه يحتاج الديمقراطية ، وكفى بمحكمة الردة الأولى في العهد الديمقراطي لمحمود محمد طه ، ثم في نقض الحكم ضده في الديمقراطية الثالثة ، كفى بهذين على ما اقول دليلا ، والملاحظ أن النور قد تجاهل تماما دور الفرد أو الأفراد مثل كل أصحاب الحتميات التاريخية ، مقابل التركيز على دور العقل الرعوي . بالنسبة لي العامل الأساسي في ما آل إليه السودان - وهنا اتفق مع عبد الله علي إبراهيم - هو مجموعة أخطاء ارتكبتها النخب السياسية ، ومن ضمنهم محمود محمد طه بتأييده لديكتاتورية نميري مثلا ، ومن ضمنها فرض الهوية العربية والمحافظة على مظاهر التنمية الاستعمارية ، حل الحزب الشيوعي ، دعوى الدستور الإسلامي ، ..الخ كل هذه أخطاء سياسية تم ارتكابها وفرضها بقرارات سياسية ولا يمكن اعتبارها تمظهرا نقيا الروح السودانية الرعوية ، إلى إي مدى نستطيع تحميل كل السودانيين أو العقل السوداني مسؤولية هذه الأخطاء ، وأحيل هنا إلى مرافعة الخاتم عدلان التاريخية ضد مسعى عبد الله علي إبراهيم لتحميل الثقافة الإسلامية العربية في السودان وبالتالي حامليها مسؤولية التهميش والظلم الذي حاق بالسودانيبن غير العرب .
يميز الجمهوريون بين الحضارة والمدنية ، على أسس أخلاقية ، وفي مقالي النور حمد أحس برغبته بالزامنا بهذا التمييز ، فكأنما الحداثة بالنسبة له قيمة أخلاقية أو جمالية مرتبطة بأسلوب حياة وطرق سلوك محددة ، هنا يوجد خلط لا داعي له ، فالإنسان الحديث قد يكون أقل إيمانا ، أكثر قلقا ، لكن لا يمكن اعتباره ارفع اخلاقا من الإنسان قبل الحداثة ، والخلط هو قياس سلوك الناس في مجتمعات حديثة يسودها النظام ويحكمها القانون ويحترم فيها الفرد ، بسلوك الناس في مجتمع استطاعت فيه البنى الاجتماعية التقليدية امتصاص الدولة.  وتحجيم وتجيير القانون .
يضرب النور حمد بدول الخليج مثلا على امتلاك مقومات الحداثة المادية دون أن تكون دولا حديثة . بالنسبة لي ما ينقص هذه الدول لتكون حديثة هو الديمقراطية ، والديمقراطية هي ما يحتاجه السودان ليندرج في مسار الحداثة ، الديمقراطية هي التكنولوجيا السياسية اللازمة لخلق جو صالح لعرض المشكلات واقتراح الحلول لها ، الشعوب في الدول غير الحديثة تحتاج الديمقراطية ل"ترتقي" وتصبح مؤهلة ، وليس العكس .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق