الخميس، 6 أكتوبر 2016

صحوة الطبقة الوسطى

إضراب الأطباء هو صحوة الطبقة الوسطى التي تم اضعافها وتقزيمها ، وترحيلها لخارج السودان ؛ الطبقة الوسطى السودانية موجودة نعم ، لكن بشكل أساسي خارج السودان ، الأطباء جزء من بقايا الطبقة الوسطى في السودان . هذا الجزء من الطبقة الوسطى منقسم بين الأمل في قفزة كبرى إلى نادي المليونيرات والخوف من السقوط إلى الحضيض ، هذا القلق والاهتزاز  سمة عامة للطبقة الوسطى في دول الاقتصاديات الغير مستقرة ، والاضطراب السياسي - وليس دائما كما يقول الماركسيون - ، صغار الاطباء في القطاع العام يكادوا يكونون داخل الطبقة الفقيرة ، بينما قلة من كبار الاختصاصيين المرتبطين بالنظام أو المحايدين  ترتبط مصالحهم بالاقلية الغنية . كان المعلمون في يوم من الأيام جزءا من الطبقة الوسطى ، ثم هبطوا بالكامل تحت مستوى الفقر ، وشرح معظمهم بالفقر صدرا ولم يعودوا يصدرون اي تذمر ، وتفننوا في اقتصاد المباصرة والكفاف ، على أمل أن يقوم أبناءهم بالنقلة الطبقية التي يئسوا منها .
في شعار #عشانك_يامواطن الذي يجري تحته الإضراب ، يمكن إستبدال كلمة مواطن ب فقير ، حيث يعبر عن ارتباط مصالح الطبقة الوسطى السفلى مع الفقراء ، فنجاح الإضراب وتحقيق مطالبه يتضمن تحسين الخدمة الطبية للفقراء مرتادي المشافي الحكومية ، وتحسين شروط العمل لصغار الأطباء . يحتاج اي اضراب لكي ينجح ان يشكل ضغطا حقيقيا ضد السلطة التي يتم ضدها ، وهي هنا الحكومة ، فمجرد امتناع الأطباء عن العمل لا يشكل ازعاجا لهذا النظام ، بل ما يزعجه هو أن يؤدي ذلك لسخط ثم فعل احتجاجي كبير من المتضررين من هذا الامتناع وهم الفقراء مرتادي المشافي الحكومية ، ذوي الوعي السياسي والحقوقي الضعيف ، الغير منظمين . نجاح الإضراب يتطلب استجابة الفقراء الإيجابية ، ولكن في الظرف السوداني الراهن فإن هذا قد لا يكون مؤكدا ، فمثلا قد يفضل الفقراء أن يتجرعوا السم ويكلفوا أنفسهم فوق طاقتها للبحث عن بديل علاجي ؛ اي سيناريو الخلاص الفردي المعتاد ، والمتوقع في ظل تدني الوعي بالحقوق وروح اليأس التي سببها القمع المتواصل والخيبات السياسية الكبرى . في وضع كهذا فإن إضرابا لعمال الشحن و التفريغ في الموانئ قد يكون أبلغ أثرا من إضراب الأطباء ، في بلد باتت تستورد كل شيئ تقريبا .

سيفعل النظام اي شئ لإفشال الإضراب ، فهو يعلم خطورة تململ الطبقة الوسطى والعواقب الوخيمة التي سيجرها عليه نجاح مثل هذا الإضراب ، وقد ظلت سياسة النظام هي القمع المبالغ فيه لأي حراك احتجاجي مهما كان محدودا ومهما كان سقفه منخفضا ، من بدايات الاحتجاج النخبوي الخافت في دارفور  الذي انتهى لحرب أهلية بسبب قمعه ، وحتى أصغر الاعتصامات الطلابية واحتجاجات المعاشيين والمتضررين من تخطيط المدن والمتذمرين من انقطاع خدمات المياه والكهرباء . فإذا كانت هذه هي استراتيجية النظام ، فاستراتيجية المعارضة ينبغي ان تكون هى العكس ؛ اي توسيع دائرة الاحتجاج ،  دون رفع سقفه إلى سقف برنامجها السياسي ، والعمل على إنجاح الاحتجاج . في حالة اضراب الأطباء فلا يكفي فقط تأييد الإضراب بالبيانات وتوجيه الكادر والمتعاطفين لانجاحه ، بل ينبغي بالإضافة لذلك العمل للخطوة الأخرى الحاسمة وهي تنظيم المتضررين منه لكي يضغطوا على النظام . بدون هذه الخطوة قد يستمر الإضراب شهورا بلا جدوى .
سواء تحققت المطالب ام لا ، فهذا الإضراب في نفسه دليل ان السودانيين ، رغم كل هذا الابداع في القمع والتجزئة والاستزراع المتواصل لثقافة الخنوع والانقياد والخلاص الفردي ، لم ينسوا أبدا النضال من اجل الحياة والحرية والسعادة وتحقيق الذات ، وظلوا وسيظلون يبدعون الاشكال الاحتجاجية الملائمة لتحسين شروط وجودهم ، تخيل بعضنا بعد الوحشية التي قمع بها النظام هبة سبتمبر المجيدة انه لن تندلع أبدا حركة احتجاجية جديدة . فإذا باطباء السودان يفاجئونا بحراك احتجاجي أكثر تنظيما وأكثر وعيا ورقيا . وينطلق من صفوف الطبقة الوسطى ذات الوعي السياسي والحقوقي المرتفع والآمال العالية ، وبانحياز تام للفقراء والمستضعفين يعبر عنه شعارهم : عشانك يا مواطن . وكما قال الإنجيل عن يوحنا المعمدان ، فقد لا يكون هذا الإضراب هو النور ، لكنه جاء ليشهد للنور ، أما النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان فآتي إلى السودان ، وعما قريب يصبح الصبح تماما .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق