الجمعة، 7 أكتوبر 2016

كيف يعزز الفيسبوك ثقافة الديمقراطية


بعد عام بالضبط من ميلاد مارك زوكربيرغ فرغ السودانيون من إسقاط نظام الديكتاتور جعفر نميري ، مدشنين بذلك فترة الديمقراطية الثالثة في تاريخهم بعد الاستقلال ، المكون من عهود ظلمات استبداد طويلة ، تتخللها ومضات واشراقات ديمقراطية خاطفة ،  لم تستمر الديمقراطية الأولى بعد الاستقلال سوى عامين ، وهي المسبوقة  بظلام القرون ، اعقبتها ست سنوات استبداد  عجاف أسوأ ما فيها أنها عقدت قضية الجنوب للغاية ووضعت بذرة الانفصال التي أثمرت في عهد الشمولية الأفظع والأطول الحالي . أعقبت الخمس سنوات الديمقراطية بعد أكتوبر ست عشر سنة من الديكتاتورية ، ثم أربع سنوات ديمقراطية بعد ثورة مارس/بريل ، وبعدها دخلت البلاد في عهد الشمولية الاسلاموية  ، الذي لم ينته بعد . هذه الدكتاتوريات المتتالية تنهي الاستمرارية اللازمة لتنمو فيها ثقافة الديمقراطية ، حيث يصعب أن تستقر الديمقراطية وتترسخ في مجتمع ما إن لم تتحول بالتدريج إلى ثقافة .ولا يمكن أن نتخيل نمو ثقافة ديمقراطية في ظل حكم غير ديمقراطي ، ولكن لدي ما يدفعني للاعتقاد أن هناك ثقافة ديمقراطية رفيعة للغاية تتخلق الآن ، وذلك بفضل الإمكانية غير المسبوقة التي تتيحها وسائط التواصل الاجتماعي .
قرأت كثير من الكتابات عن تسطيح الوسائط الاجتماعية للثقافة وابتذالها ، وتعميقها الانقسام الاجتماعي وتصعيد خطاب الكراهية ، وتشجيعها للغوغائية ، وخلقها لصناع رأي عام ونجوم مزيفين ومضللين ، بل وقرأت حتى عن كونها تعطل الحراك الثوري على الأرض ، وتلهي الشعب بعالم " إفتراضي " بديل . ولعل أبرز المهاجمين لوسائط التواصل إلاجتماعي من كبار المنظرين هو الروائي والمفكر الإيطالي أمبرتو إيكو الذي قال عنها  في حوار نقله للعربية صالح علماني أنها  «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».
 وسائط التواصل الاجتماعي لم تأت بأي من الظواهر أعلاه ، بل ظلت هذه الظواهر موجودة على الدوام ، بل إن الوسائط الاجتماعية توفر بدائل لم تكن متاحة لظهور خطابات مضادة للخطابات الرسمية المفروضة .وعندما أتحدث عن الفرض والالزام فأنا لا أعني فقط ما يفرضه الإعلام الديكتاتوري ، بل أيضا ما تفرضه النخب الثقافية والمؤسسات التي يستحيل الاعتقاد  إنها محايدة بشكل مطلق ، حتى جائزة نوبل التي جعل امبرتو ايكو مجرد الفوز بها يعطي الشخص الحق الحصري في الكلام تم اتهام نزاهتها وحياديتها ورفضها بعض الأدباء لذات الأسباب اهمهم سارتر .
قبل الفيسبوك وتويتر بمئات السنين عرف العالم ظاهرة النجومية الغير مبررة ومطاردة الأضواء وشهرة انصاف الموهوبين ، وظل الصفوة والنخب يشتكون من هذه الظاهرة منذ أيام ديوجينس الكلبي إلى أبي العلاء المعري إلى محمد المهدي المجذوب ، كما ظلت قوائم الكتب الأكثر مبيعا محجوزة لكتب توصف على الدوام بالمبتذلة . أظن أن الفكرة اتضحت الآن ، إذ ليس هدفي الأساسي الدفاع عن الوسائط الاجتماعية ، بل تبيان أثرها فى تعزيز ثقافة الديمقراطية في مجتمع ظلت تتخطفه الديكتاتوريات مثل السودان .
يدخل السوداني الفيسبوك فيجد نفسه وسط عشرات بل مئات الرؤى والأفكار المتضاربة ، وهو المعتاد على الثقافة الأحادية ونمط الحياة الجاهز المثالي اللاشخصي  ، مع أنه يكون وسط أهله وأصدقائه وزملائه ومعارفه إلا أنه يتفاجأ في الفيسبوك بجوانب من فكر واهتمامات هؤلاء الناس ما كان له أن يراها خارجه ، يجد أن مسلماته وحتى مقدساته - التي ظنها قوانين الطبيعة - محل نقد وتساؤل من أشخاص غير مجانين ولم يهبطوا من كوكب آخر . ويجد من يستبيحون ما يظنه محرما ، ويستسهلون ما يحسبه مستحيلا ، ويجد من يشاركونه اراءا أو اهتمامات ظل يعتقد  أنه الوحيد الذي يعتقدها أو يهتم بها ، ويجد أن قصة حياته التي ظل يراها فريدة تشبه قصص حياة آخرين غيره . يجد الاختلاف بكل أنواعه حاضرا بقوة . وفوق كل ذلك يجد أنه ليس باستطاعته - كما اعتاد - ان يمنع المختلفين من الاختلاف ، وأن أقصى مقاومة يمكن ان يقوم بها هي أن لا يهتم أو أن  يسعى لمنع المختلفين معه من ازعاجه باختلافهم بحظرهم . وقد يفهم أن الفيسبوك يظهر الخلافات فقط ولا يصنعها . وأخيرا يجد السوداني المكان الذي يستطيع ان يعبر فيه بلا خجل عن حبه ! لأسرته ، لاصدقائه ، لشخص محدد ..الخ ، ويجد المكان الذي يستطيع أن يجرب فيه طاقاته القصوى ويفعل ما يخجل ، يخشى أو ينسى ان يفعله بالخارج ، سواء باسمه المعروف أو من وراء اسم مستعار .
 أنا مع فكرة النسق الحضاري ، حيث أن لكل حضارة نسق فكري وتصور كامل للعالم ينعكس  يتمثل في أي منتوج مادي لهذه الحضارة ، والفيسبوك  منتوج مادي للحضارة الحديثة ، حضارة العقل  والفرد والحرية ، حضارة المجتمع المفتوح والنظام المعرفي  المفتوح ، الحضارة التي تبيح النقد حتى لأساسياتها . والديمقراطية ومنظومة القيم الديمقراطية من أهم مرتكزات  هذه الحضارة ؛ ولذا اعتقد ان الديكتاتورية والظلامية الدينية باتت تلعب خارج ملعبها وبغير شروطها . ولذا يقع السودانيون بوصفهم من رعايا الحضارة التقليدية في شرك مكر الحداثة والتفافاتها ، ويتعرضون للعلمنة اللاواعية والمقرطة اللاواعية - مقرطة صيغة تفعيل معربة من  ديمقراطية - عندما يتعاملون ب/أو مع منتوجات الحضارة الحديثة مثل الفيسبوك .
عندما تنضم لمجموعة على الفيسبوك أو تتابع صفحة تخص من يشاركونك اهتماما معينا ،أو حتى بدافع التطفل والفضول فأنت تمارس حرية التجمع وهي قيمة ديمقراطية وحق إنساني ، وكذلك عندما تقوم بتنظيم او دعم حملة لغرض معين ، حتى لو كانت هذه الحملة لإغلاق صفحة أو حظر حساب شخص تختلف معه ، فأنت ملزم بالاحتكام بمبدأ الأغلبية الديمقراطي ، إذ يجب أن يكون من هم مع حملتك أكثر من مناهضيها ، وأن تقدم أسبابا منطقية - بمنطق الديمقراطية لا منطقتك أنت - مثل انتهاك الخصوصية ، أو إثارة الكراهية أو الحض على العنف والجريمة ، لكي يتم الفصل في دعواك ، وهنا مبدأ حكم القانون الديمقراطي ، إذ لن يتم حظر صفحة أو شخص لو قلت انه كافر أو لا أخلاقي - بمعاييرك الخاصة -  او معارض سياسيا ..الخ مثل ما قد يحصل في الخارج ، وقبل هذا حق حرية التعبير الديمقراطي الحر عن أفكارك و آراءك .
فلنأخذ المجموعة النسائية الشهيرة " منبرشات " وبقية المجموعات النسوية كنموذج ، فقبلها بمئات السنين ، اعتاد نساء السودانيات علي التجمع بإعداد صغيرة في حوش الحريم ،أو استراحات الطالبات  ، والثرثرة حول الرجال وحكاية قصص الاعجاب برجل معين وتبادل الخبرات والآراء حول هذا الموضوع ، في هذا الجانب منبرشات هو استمرارية لنفس الظاهرة بشكل أوسع بكثير من تجمع النساء التقليدي ، ومن جانب آخر هناك ثقافة جديدة هي إبداء النساء لحبهن أو اعجابهن بشكل جماهيري ، والتحدث أصالة عن أنفسهن عن معاييرهن وتفضيلاتهن الشخصية ، بعد أن ظللن لقرون محكومات بتصور ذكوري للجمال النسوي نفسه ، ويتبادلن الكثير من المعلومات حول همومهن الخاصة وقضاياهن ويتعلمن من بعضهن البعض في شتى المجالات ، ومرة أخرى هذه هي فكرة حق التجمع والحقوق الثقافية والاجتماعية ، لكن الأهم من كل هذا أن النساء انطلقن لموقع الفعل ، فلم يعد فقط التاريخ الشخصي للمرأة هو المهم أو أن سمعتها مثل عود الثقاب ، بل أصبح التاريخ الشخصي للرجال وعلاقاتهم وأساليب حياتهم  أيضا محل تساؤل عمومي من النساء أنفسهن ، وليس البحث التقليدي الذكوري النظرة  الذي تقوم به الأسرة عن المتقدم لخطبة البنت .
من خلال الفيسبوك استفادت مجموعات شبابية كثيرة من حرية التجمع ، واستطاعوا بجهود جماعية إنجاح مبادرات سياسية وخيرية وفنية كثيرة ، مثلا مبادرة " نفير " و " شارع الحوادث " و " مجموعة محمود في القلب " و الكثير غيرها ، ولابد أن نتذكر أن مظاهرات 30 يناير 2011 ثم مظاهرات 2012 التي توجت بهبة سبتمبر المجيدة 2013 انطلقت من مبادرات لعب الفيسبوك بما هو وسيط ومنير إعلامي حر دورا كبيرا فيها .
أما بخصوص تهمة تسطيح الثقافة ، فبصفتي المهنية كبائع كتب أقول أن ظهور الوسائط الاجتماعية خاصة الفيسبوك قد ساهم مساهمة كبرى في زيادة الإقبال على الكتاب الورقي والإلكتروني ، من خلال تبادل الافادات في المجموعات المختلفة حول الكتب ، ومهد الفيسبوك لظهور كتاب كثير منهم جيدون  ما كان لنا أن نسمع بهم لولاه .

الديمقراطية هي النقاش ، و ما يحدث في الفيسبوك السوداني هو النقاش ، نعم النقاش ،  الذي قال عنه تشرشل " ان أكبر تهديد للديمقراطية هو نقاش لخمس دقائق مع ناخب متوسط المستوى " ، وهؤلاء العامة الذين وصفهم امبرتو ايكو ب " فيالق الحمقى " هم نفسهم الشعب صاحب السلطة المطلقة في الأنظمة الديمقراطية ، وعلينا - نحن اللاعامة -أن لا ننزعج من كثافة حضورهم ، الديمقراطية تعني انك ملزم بسماع رأي من تظنه احمقا ، فكما يعلمهم الفيسبوك ان يكون لهم آراء خاصة وأن ينتقدوا الآراء التي يرونها خاطئة بطريقتهم العامية في النقد ، فيجب أن يعلمنا ان عهد الصفوية والنخبة التي تضع المعايير على مقاسها يكاد ينتهي ، وعلينا أن نعد أنفسنا لعهد جديد غير مسبوق ، أكثر تباينا وأكثر ديمقراطية ، بعد أن أصبح الذين لا ناموس لهم ، ناموس أنفسهم .
أنا واعٍ للطريقة التي استعملت بها الضمائر في الفقرة السابقة مباشرة ؛ نحن وهم ، نحن الصفوة وهم الحمقى ، ذلك أنه ما ان نشر صالح علماني ترجمته لرأي امبرتو ايكو حتى انتشر في الفيسبوك انتشار النار في الهشيم ، ولابد أن كل من ينشره يصنف نفسه ضمن الصفوة المتأففين من إعطاء حق التعبير لفيالق الحمقى وهنا يكون تعريف الأحمق " من ليس أنا "  . الديمقراطية هي النظام الوحيد الذي لديه تصور لحل هذه المعضلة ، معضلة المعيار والسلطة ،  بتفتيتها للسلطة أفقيا بالفيدرالية وراسيا بفصل السلطات  ، وباتاحتها لحرية التعبير ، وحفظها للحقوق الأقليات مع الاحتكام للأغلبية .ولعل تذمر من يعدون أنفسهم صفوة يعود لمصادرة ديمقراطية مارك زوكربيزغ لامتيازهم التاريخي باحتكار التعبير .
اعتبر تزايد المشتركين السودانيين في الفيسبوك علامة حاسمة على توقهم الأبدي للحرية ، ولقبولهم بمبادئ الديمقراطية ، تماما كما يدل على ذلك هجرتهم الكبيرة للعالم الديمقراطي حيث الحرية والاختلاف واندماجهم فيه. كما لا انزعج من ظاهرة " مدمني الفيسبوك " واعتبرها ظاهرة صحية بل وطبيعية ، فالإنسان يذهب إلى حيث يُحترم ويشعر بقيمته ، حيث يتكلم بلا خوف ، ويشارك ويحاول أن يؤثر ، حيث يستأنس برفقة من يشاركونه حتى أغرب الاهتمامات ، وحيث يكون هو هو ، فمن الطبيعي أن يهرب من " العالم الافتراضي " الذي نسميه الواقع الموضوعي ، إلى حيث يكون إنسانا في " العالم الحقيقي " عالم الوسائط الاجتماعية الحرة . العالم الذي لا يستطيع الإنسان فيه تحقيق ذاته واختبار قصارى قدراته لا يمكن أن نسميه عالما حقيقيا ، وما الواقع سوى أوهام نسينا أنها كذلك كما يقول نيتشه ، وأظن أن تراكم الوعي الديمقراطي الذي يتم عبر الوسائط الاجتماعية سيؤدي عاجلا أو آجلا إلى هدم الجدار الفاصل بين العالمين .









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق